( ولما ثَقُلَ عَلَى نبيِّ اللهِ المَرَضُ ، أقبلت عليه وأقبلَ النَّاسُ ، فَدَخَلْتُ عليه فوجدتُه قَدْ صَمَتَ فما يَتَكَلَّمُ من وَطْأةِ الدَّاءِ ، فجعلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِلى السَّماءِ ثم يَضَعُها عَلَيَّ ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعو لي)
ثم ما لَبِثَ أَنْ فارقَ ﷺ الحياة.
[ أسامـة بن زيد رضي الله عنه ]
نحن الآن في السنة السابِعَةِ قبلَ الهِجْرَةِ فِي مَكَّةَ ورسولُ اللهِ صلواتُ الله وسلامه عليه يُكـابـدُ من أذى قريش لـه ولأصحابه ما يُكابد .
ويحمل من هموم الدَّعْوَةِ وأعبائها ما أحالَ حَياتَهُ إِلَى سِلْسِلَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ مِنَ الأحزانِ وفيما هو كذلك أَشْرَقَتْ في حياته بارِقَةُ سرورٍ .
فلقد جاءَهُ البشير يُبَشِّرهُ أَنَّ « أُمَّ أَيْمَنَ » وضعتْ غلاماً فأضاءت أساريره عليه الصلاة والسلامُ بالفَرْحَةِ ، وأشرق وجهه الكريم فمَنْ يكونُ هذا الغلامُ السعيدُ الذي َأدْخَلَ عَلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ كُلَّ هذا السرور ؟!
إنه « أَسَامَةُ بنُ زَيْد ». ولم يَسْتَغْرِبْ أحد من صحابة رسول الله بهجته بالمولود الجديد ، وذلك لِمَوْضِعِ أَبَوَيْهِ مِنه ومَنْزِلَتِهِما عنده فامُ الغُلام هي بَرَكَةُ الحَبشِيَّةُ ، المكناة بأم أيمن وقد كانَتْ مَمْلُوكَةٌ لَآمِنَةِ بنتِ وهَبٍ أُم الرسول عليه الصلاة والسلام ،
فَرَبَّتْهُ في حَيَاتِها ، وحَضَنتْهُ بَعْدَ وَفَاتِها ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ على الدُّنيا ، وهو لا يعرِفُ لنفسهِ أَمَّا غَيْرَهَا فأَحَبَّها أَعْمَقَ الحُبِّ وَأَصْدَقَهُ ، وكثيراً ما كان يقول :
هي أمي بعد أمي ، وبقية أهل بيتى هذه أُمُّ الغلامِ المَحْظُوظ ، أما أبوه فهو « حِبُّ » رسول الله ﷺ زيدُ بنُ حارثة ، وابنه بالتبني قَبْلَ الإسلام ، وصاحِبُهُ وَمَوْضِعُ سِرِّه ، وأَحَدُ أَهْلِهِ وَأَحَبُّ الناس إليه بَعْدَ الإسلام وقد فَرِحَ المسلمونَ بِمَوْلِدِ أَسَامَةَ بنِ زَيْدٍ كما لم يَفْرَحُوا بمولود سواه ؛
ذلك لأنَّ كُلَّ ما يُفْرِحُ النَّبيَّ يُفرِحُهُم ، وكلَّ ما يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِهِ يَسُرُّهُمْ فأطلقوا على الغلام المحظوظ لقبَ : « الحِبَّ وابنُ الحِبِّ » .
ولم يكن المسلمونَ مُبَالِغين حينَ أطلقوا هذا اللقب على الصبي الصغير أَسَامَةَ ؛ فقد أَحَبَّهُ الرَّسول صلواتُ الله وسلامه عليه حُبًّا تَغْبطه عليه الدُّنيا كُلُّها.
فَقَدْ كان أَسامَةُ مُقارِباً في السِّنَّ لِسِبْطِهِ الحَسَنِ بنِ فَاطِمَةَ الزَّهْراء وكان الحَسَنُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ رائِعَ الحُسْنِ شديدَ الشَّبَهِ بِجَدِّهِ رَسولِ اللَّهِ .
وكان أسامةُ أَسْوَدَ الْبَشَرَةِ أَفْطَسَ الْأَنْفِ شَدِيدَ الشَّبَهِ بأُمِّهِ الحَبَشِيَّةِ لكِنَّ الرسول صلواتُ اللهِ عليهِ ما كانَ يُفَرِّقُ بينَهُما فِي الحُبِّ ، فكان يأخذُ أسامةً فيَضَعُه على إِحْدَى فَخِذَيْه ، ويأخُذُ الحَسَنَ فَيَضَعُه على فَخِذِهِ الْأُخْرَى ثم يَضُمُّهَما معاً إِلَى صَدْرِهِ ويقول :
( اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُما ) .
وقد بَلَغَ من حُبِّ الرسولِ لإِسامَةَ أَنَّهُ عثر ذَاتَ مَرَّةٍ بِعَتَبَةِ الْبَابِ فَشُجَّتْ جَبْهَتُه ، وسالَ الدَّمُ من جُرْحِه ؛ فأشار النبيُّ صلواتُ الله وسلامه عليه لعائشةَ رِضْوَانُ اللهِ عليها أن تُزيلَ الدَّمَ عنْ جُرْحِه فلم تَطِبْ نَفْسُهَا لذلك فقام إليه النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه وجَعَلَ يَمصُّ شَجَّتَهُ ، ويَمُجُ الدَّمَ وهو يُطَيِّبُ خاطِرَهُ بكلماتٍ تَفيضُ عُذُوبَةً وحناناً . شبابه:
وكما أَحَبَّ الرسول صلواتُ اللهِ عليه أسامة في صِغَرِه فقد أحَبَّهُ في فلقد أَهْدَى حكيمُ بنُ حَزام أَحَدُ سَرَاةِ قريش لرسولِ اللهِ ﷺ حُلَّةً ثمينةً شَرَاها من الْيَمَنِ بخمسين ديناراً ذهباً كانت « لِذِي يَزُن » أَحَدٍ مُلوكِهم . فأبى رسول الله ﷺ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيتَه لأنه كان يومئذٍ مُشْرِكاً ، وأَخَذَها بِالثَّمَن .
وقد لَبِسَها النبيُّ الكريمُ مَرَّةً واحِدَةً في يوم جُمُعَةٍ ، ثم خَلَعَها على أسامة بن زيدٍ ، فكان يروحُ بها ويَغْدُو بَيْنَ أَتْرَابِه مِن شُبَّانِ المهاجرِينَ والأَنْصارِ ولما بلغ أسامة بن زيدٍ أَشُدَّهُ ، بَدا عليه مِنْ كريم الشمائل وجليل الخَصَائِلِ ما يَجْعَلُهُ جَدِيراً بِحُبِّ رسولِ اللهِ ﷺ فقد كان ذُكِيًّا حادَّ الذَّكاءِ ، شُجاعاً خارِقَ الشجَاعَةِ ، حكيماً يَضَعُ الأمورَ في مواضعها ، عفيفاً يَأْنفُ الدَّنايا ، آلِفاً مألوفاً يُحِبُّه النَّاسُ ، تَقِيًّا وَرِعاً يُحِبُّه الله ففي يوم أحَدٍ جَاءَ أسامة بن زيدٍ مع نَفَرٍ من صبيانِ الصَّحَابَةِ يُريدون
الجهاد في سبيل اللهِ ، فَأَخَذَ الرسولُ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ ، وَرَدَّ مِنْهم مَنْ رَدَّ لِصِغَرِ أَعْمَارِهِمْ ، فكان في جملة المردودين أسامة بن زيدٍ ، فَتَوَلَّى وعيناه الصغيرتان تفيضانِ من الدَّمْعِ حَزَنَا أَلَّا يُجَاهِدَ تَحتَ رَايَةِ رسولِ اللَّهِ وفي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ ، جاءَ أسامة بن زيدٍ أيضاً ومَعَهُ نَفَرٌ مِن فِتْيَانِ الصَّحَابَةِ وجَعَلَ يَشُدُّ قامَتَها إِلى أَعْلَى لِيُجِيزَهُ رسولُ اللهِ ، فَرَقَ له النبيُّ عليه الصلاة
والسَّلامُ وأجازه ، فحمل السيف جهاداً في سبيل الله وهو ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ وفي يوم حُنَيْنٍ حين انهزَمَ المسلمون ، ثَبَتَ أَسامةُ بنُ زِيدٍ مِع الْعَبَّاسِ عَمِّ الرسول ، وأبي سفيان بن الحارث ابنِ عَمِّه وسَتَّةِ نفـرٍ آخرين من كرام الصَّحابةِ ، فاستطاع الرسول عليه الصلاة والسَّلامُ بهذه الفئة الصغيرة المؤمنة الباسِلةِ ، أَنْ يُحَوِّلَ هزيمَةَ أَصْحَابِه إِلى نَصْرٍ ، وأَنْ يَحْمِي المسلمين الفارين من أَن يَفْتِكَ بِهِم المُشْرِكون وفي يومٍ مُؤْتَةَ جَاهَدَ أسامةُ تحتَ لِوَاء أبيه زيدِ بنِ حارِثَةَ وَسِتُّه دونَ الثَّامِنَة عشرة ، فرأى بِعَيْنَيْهِ مَصْرَعَ أبيه ، فلم يَهِنْ ولم يَتَضَعْضَعْ ، وإِنما ظَلَّ يُقَاتِلُ تحتَ لِواءِ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى صُرِعَ على مَرْأَى مِنه ومَشْهَدٍ ، ثم تحتَ لِواءِ عبدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ حَتَّى لَحِقَ بِصَاحِبَيْه ، ثم تحت لواء خالد بن الوليد حتى
استَنْقَذَ الجيش الصغيرَ من براثن الرُّومِ . عاد أسامة إلى المدينةِ مُحْتَسِباً أباه عِنْدَ اللهِ ، تاركاً جَسَدَهُ الطَّاهِرَ على تخوم الشَّام ، راكباً جواده الذي اسْتُشْهِدَ عليه.
* * *
وفي السَّنَةِ الحادية عشرة للهِجْرَةِ ، أمر الرسول الكريم بتجهيز جيش لِغَزْوِ الرُّوم ، وجَعَلَ فيه أبا بكر ، وعمر ، وسَعْدَ بن أبي وقاص ، وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم من جِلَّةِ الصحابة ، وأمَّرَ على الجيش أسامة بن زيد ، وهو لم يجاوز العشرين بَعْدُ . وأمَرَه أن يُوطِئَءَ الخيل تخوم « البَلْقاءِ » و « قَلْعَةَالداروم » ، القريبة من غَزَّةَ من بلاد الروم . وفيما كان الجيشُ يَتَجَهَّرُ ، مَرِضَ رسولُ اللهِ ﷺ ، ولما اشْتَدَّ عليه المرضُ ، تَوَقَّفَ الجيشُ عن المسير انتظاراً لِما تُسْفِرُ عنه حال رسولِ اللهِ ﷺ
قال أسامة : ( ولما ثَقُلَ عَلَى نبيِّ اللهِ المَرَضُ ، أقبلت عليه وأقبلَ النَّاسُ ، فَدَخَلْتُ عليه فوجدتُه قَدْ صَمَتَ فما يَتَكَلَّمُ من وَطْأةِ الدَّاءِ ، فجعلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إِلى السَّماءِ ثم يَضَعُها عَلَيَّ ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعو لي) ثم ما لَبِثَ أَنْ فارقَ الرسولُ الحياة ، وتَمَّتِ البيعةُ لأبي بكرٍ ، فأمر بإنفاذ بَعْثِ أَسَامَةَ . لكِنَّ فِئَةً من الأنصارِ رَأتْ أنْ يُؤخَّرَ الْبَعْتُ ، وَطَلَبَتْ من عمر بن الخطاب
أن يُكلِّم في ذلك أبا بكر ، وقالت له فإِنْ أَبَى إِلَّا الْمُضِيَّ ، فَأَبْلِغْهُ عَنَّا أَنْ يُولِّيَ أَمْرَنَا رَجُلًا أَقْدَمَ سِنَا مِن أَسَامَةَ وما إِنْ سَمِعَ الصِّدِّيقُ مِنْ عمرَ رِسَالَةَ الأنْصارِ ، حتى وثَبَ لها ـ وكان جالساً ـ وأخَذَ بِلِحْيَةِ الفاروقِ وقال مُغْضَباً :
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَعَدِمَتْكَ يا بن الخطاب اسْتَعْمَلَهُ رسولُ اللهِ ﷺ وتأمرني أَنْ أَنْزَعَه ؟! واللهِ لا يكون ذلك
ولما رَجَعَ عمرُ إِلى النَّاسِ ، سألوه عَمَّا صَنَعَ ، فقال : امضوا ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكم ، فقد لَقيتُ ما لقيتُ في سبيلكم من خليفة رسول الله .
***
ولما انطلق الجيش بقيادَةِ قائِده الشَّابِّ ، شَيْعَهُ خليفةُ رسولِ اللَّهِ ماشِياً وأسامة راكب ، فقال أسامة : يا خليفة رسول
ساعَةً ؟! والله لتركبن أو لأنزِلَن . فقال أبو بكر : الله والله لا تنزل ، ووالله لا أَرْكَبُ … وما عَلَيَّ أَنْ أَغَيْرَ قَدَمَي في سبيل الله
تَنْزِلُ قال لأسامةَ : أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وأمانتك وخواتيمَ عَمَلِكَ ، وأُوصِيكَ بِإِنْفَاذِ ما أَمَرَكَ به رسولُ اللهِ ، ثم مالَ عليه وقال:
إِنْ رأيتَ أَنْ تُعِينَنِي بِعُمَرَ فأذن لَهُ بِالْبَقَاءِ مَعي ، فَأَذِنَ أَسَامَةُ لِعُمَرَ بالبقاء مَضَى أسامة بن زيد بالجيش ، وأَنْفَذَ كُلَّ ما أَمَرَهُ بِهِ رَسولُ الله ، فَأَوْطَأ خيل المسلمين « تُخومَ الْبَلْقَاءِ » و « قَلْعَةَ الدَّاروم » من أَرْضِ فِلَسْطِينَ ، ونَزَعَ هَيْبَةَ الرُّوم من قُلوبِ المسلمينَ ، ومَهَّدَ الطريق أمامهم لفتح ديار الشام ومصر ، والشمال الإفريقي كلَّه حَتَّى بحر الظُّلُمات ثمَّ عادَ أسامةُ مُمْتَطِياً صَهْوَة الجوادِ الذي اسْتُشْهِدَ عليه أبوه ، حاملاً من الغنائم ما زاد عن تقديرِ المُقَدِّرِينَ ، حتى قيل : إِنَّهُ ما رُئِي جيشَ أَسْلَمُ وَأَغْنَمُ من جيش أسامةَ بنِ زِيدٍ ظَلَّ أسامة بن زيد – ما امتدَّتْ به الحياة – مَوْضِعَ إِجلال المسلمين وحُبِّهم ، وفَاءً لرسول اللَّهِ ، وإجلالاً لِشَخْصِه فقد فَرَضَ له الفاروقُ عَطاءً أكثرَ مِمَّا فَرَضَهُ لِابْنِه عبدِ اللَّهِ بن عمر ، فقال
عبد الله لأبيه :
يا أَبَتِ ، فَرَضْتَ لأسامة أربعة آلافٍ وَفَرَضْتَ لي ثلاثة آلافٍ ، وما كان لأبيه من الْفَضْلِ أكثرُ مِمَّا كانَ لَكَ ، ولَيْسَ لَهُ من الْفَضْل أكثر مما لي . فقال الفاروقُ : هَيْهَاتُ إِنَّ أباه كان أَحَبَّ إِلى رسولِ اللهِ من أبيكَ ، وكان هو أَحَبَّ إلى رسول اللهِ مِنْكَ فَرَضِيَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بِمَا فُرِضَ له من عَطَاءٍ وكان عمر بن الخطاب إذا لَقِيَ أسامة بن زيد قال : فإذا رأى أحداً يَعْجَبُ منه قال : مَرْحَباً بأميري لقد أَمَّرَهُ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِمَ اللهُ هذه النفوس الكبيرة ، فما عَرَفَ التاريخُ أَعْظَمَ ولا أَكْمَلَ ولا أنبل من صَحَابَةِ رسولِ اللهِ.
صور من حياة الصحابة | عبد الرحمن رأفت باشا