(رَبَّحَ البَيْعُ يَا أَبَا يَحْيَى ، ربح البيع …)
[محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]
ومَنْ مِنَّا – مَعْشَرَ المسلمين ـ لا يَعْرِفُ صُهَيْباً الرُّومِيُّ ، وَلَا يُلِمُ بِطَرَفٍ من أَخْبَارِهِ ونُتَفٍ من سِيرَتِه ؟!
ولكن الذي لا يعرِفُه الكثيرُ مِنَّا هو أنَّ صُهَيْباً لم يَكُنْ رومِيًّا ، وإِنَّما كان عَرَبِيًّا خالِصاً ، نُمَيْرِيَّ الآب تَمِيمِيَّ الأم أَسْفَارُه ولانتِسابِ صُهَيْبِ إِلى الرُّومِ قِصَّةُ ما تَزَالُ تَعِيها ذاكِرَةُ التَّارِيخ ، وتَرْوِيها فَقَبْلَ الْبَعْثَةِ بِحَوَالَيْ عِقْدَيْنِ من الزَّمانِ كان يَتَوَلَّى “الْأَبَلَّةَ” سِنَانُ بنُ مالِكِ النُّمَيْرِيُّ، من قِبَل كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْس وكان أَحَبَّ أولادِه إليه طِفْلُ لَمْ يُجَاوِزِ الحَامِسَةَ مِن عُمُرِهِ ، دَعاهُ صُهَيْباً.
كانَ صُهَيْبٌ أَزْهَرَ الْوَجْهِ ، أَحْمَرَ الشَّعْرِ مُتَدَفِّقَ النَّشَاطِ ذَا عَيْنَيْنِ تَتَّقِدَانِ فِطْنَةٌ وَنَجَابَةٌ وكان إلى ذلك مِمْراحاً ، عَذْبَ الرُّوحِ ، يُدْخِلُ السرور على قلب أبيه ويَنْتَزِعُ منه هُمومَ المُلْكِ انْتِزاعاً .
***
مضت أمُّ صُهَيْب مع ابنها الصغير وطائفة من حَشَمِها وحَدَمِها إِلى قَرْيَةِ « الثني » من أرض العِراقِ طلباً للرّاحَةِ والاستجمام ، فأغارت على القريةِ سَرِيَّ من سرايا جيش الروم ، فقتلتْ حُرَّاسَها ، ونَهَبَتْ أَمْوَالَهَا ، وأسرت ذراريها . فكان في جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَتْهُمُ صُهَيْبٌ .
بيع صُهَيْبٌ في أسْواقِ الرقيق ببلاد الروم ، وَجَعَلَتْ تَتَدَاوَلُهُ الْأَيْدِي فَيَنْتَقِلُ مِنْ خِدْمَةِ سَيِّدٍ إلى خِدْمَةِ آخَرَ ، شأنه في ذلك كشأنِ الآلاف المؤلَّفَةِ من الأرقاءِ الذين كانوا يملأون قصور بلاد الروم وقد أتاحَ ذلك لِصُهَيْبِ أنْ يَنْفُذَ إِلَى أَعْمَاقِ المُجْتَمَع الرومي ، وأَن يَقِفَ عليه من داخله ، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ ما يُعَطِّشُ في قصوره من الرذائل والموبقات وسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ ما يُرْتَكَبُ فيها من المَظَالِم والمآثِم ، فَكَرِه ذلِكَ المجتمع وازْدَرَاه وكان يقولُ في نَفْسِه : إِنَّ مُجْتَمَعاً كَهَذَا لَا يُطَهِّرُهُ إِلَّا الطُّوفان.
**
وعلى الرغم من أَنَّ صُهَيْباً قد نَشَأ في بلاد الروم ، وشَبَّ عَلى أَرْضِها وَبَيْنَ أَهْلِها وعلى الرَّغْمِ من أَنَّهُ نَسِيَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ كادَ يَنْسَاهَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ بَالِهِ قَطُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ من أَبْنَاءِ الصَّحْرَاءِ ولَمْ تَفْتُرْ أَشْوَاقُهُ لَحْظَةً إلى اليوم الذي يَتَحَرَّرُ فِيه مِن عُبُودِيَّتِهِ ، وَيَلْحَقُ بِبَنِي قَوْمِ وقد زادَهُ حَنيناً إِلَى بِلادِ الْعَرَبِ فَوْقَ حَنِينِهِ ، أَنَّهُ سَمِعَ كَاهِنا من كَهَنَةِ النَّصَارَى يقولُ لِسَيِّدٍ من أَسْيَادِه :
لقد أطَلَّ زَمانُ يَخْرُجُ فيه من مَكَّةَ في جزيرة العربِ نَبِيِّ يُصَدِّقُ رسالةَ عِيسَى بنِ مريمَ ، ويُخْرِجُ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ .
***
ثُمَّ أَتِيحَتِ الْفُرْصَةُ لِصُهَيْبٍ فَوَلَّى هارباً من رِقٌ أَسْيَادِهِ ، وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى وَمَوئل العرب ، وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ المُرْتَقَبِ ولما أَلْقَى عَصَاهُ فيها أطلق الناسُ عليه اسم صهيب الرومي لِلكْنَةِ لسانه وحُمْرَةِ شَعْرِه .
وقد حالف صُهَيْبٌ سَيِّداً من ساداتِ مَكَّةَ هو عبد الله بن جُدْعانَ وطَفِقَ يَعْمَلُ في التجارَةِ ، فَدَرَّتْ عليه الخير الوفير والمال الكثير غَيْرَ أَنَّ صُهَيْباً لم تُنْسِهِ تِجَارَتُهُ ومَكاسِبُهُ حديثَ الكَاهِنِ النَّصْرَانِي فكان كُلَّما مَرَّ كلامه بخاطِرِهِ يُسائِلُ نَفْسَهُ فِي لَهْفَةٍ :
متى يكون ذلك؟!
وما هو إلا قليل حتى جاءه الجواب.
***
ففي ذات يوم .
ابن عبدِ اللَّهِ قد بُعِثَ وقامَ يَدْعُو النَّاسَ إلى الإيمانِ باللَّهِ وَحْدَهُ ، وَيَحُضُهُمْ على الْعَدْلِ والإحسانِ ، وينهاهُمْ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ عادَ صُهَيْبٌ إِلَى مَكَّةَ مِن إِحْدَى رَحْلاتِه ، فقيل له إِنَّ محمد.
***
فقال : أليس هو الذي يُلَقَّبُونَهُ بالأمين ؟!
فقيل له : بلى
فقال : وأين مكانه ؟
فقيل له : في دارِ الْأَرْقَمِ بنِ أَبي الأرقم عندَ الصَّفَا ولكِنْ حَذارِ من أَنْ يَرَاكَ أَحَدٌ من قريش ؛ فَإِنْ رَأَوْكَ فَعَلُوا بِكَ … وَفَعَلُوا وأنت رجلٌ غريبٌ لا عَصَبِيَّةَ لك تحميك ، ولا عشيرة عِنْدَكَ تَنْصُرُك
***
مَضَى صُهيبٌ إِلى دارِ الأرقمِ حَذِراً يَتَلَفْتُ ، فلما بَلَغَهَا وَجَدَ عِنْدَ البَابِ عَمَّارَ بنَ يَاسِرٍ ، وكانَ يَعْرِفُه من قبلُ ، فتردَّدَ لحظةً ثم دنا منه وقال : ما تُرِيدُ يا
عمار ؟
فقال عمار : بل ما تُريدُ أنت ؟
فقال صهيب : أردتُ أَنْ أَدْخُلَ على هذا الرَّجُلِ ، فأسمع منه ما يقولُ .
فقال عمار : وأنا أريد ذلك أيضاً
فقال صهيب : إِذَنْ نَدْخُل مَعاً على بَرَكَةِ اللَّهِ دخل صهيبُ بنُ سِنان الرومي وعمَّارُ بنُ ياسِرٍ عَلَى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وَاسْتَمَعَا
إِلى مَا يَقولُ ، فَأَشْرَقَ نُورُ الإِيمَانِ فِي صَدْرَيْهِما ، وتسابَقَا فِي مَدَّ أَيْدِيهِما إِليه ، وشهدا أنْ لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأَمْضَيَا سَحَابَةً يَوْمِهما عندَه يَنْهَلَانِ مَن هَدْيِهِ وَيَنْعُمانِ بِصُحْبَتِهِ ولما أقبل الليلُ ، وهَدَأَتِ الحَرَكَةُ ، خَرَجا من عِنْدِهِ تَحْتَ جُنح الظلام ، وقد حَمَلَ كُلُّ منهما من النُّورِ في صَدْرِهِ ما يَكْفِي لإضاءَةِ الدُّنْيَا بِأَسْرِها .
تحملَ صُهيب نصيبَهُ من أذَى قُرَيْش مع بلال وعمارٍ وسُميَّة وحَبابِ وغيرهم من عشرات المؤمنين ، وقاسى من نَكَالِ قُرَيْشَ مَا لَو نَزَلَ بِجَبَلٍ لَهَدَّه ، فَتَلَقَّى ذلكَ كُلَّهُ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ صَابِرَةٍ ، لأنَّهُ كانَ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ الجَنَّةِ مَحفُوفٌ
بالمكاره .
ولما أذِنَ الرسولُ لأَصْحَابِهِ بِالهِجْرَةِ إِلى المدينةِ ، عَزَمَ صهيبٌ على أَنْ يَمْضِي في صُحْبَةِ الرسول وأبي بكر ؛ لكن قريشاً شَعَرَتْ بِعَزْمِهِ على الهِجْرَةِ فَصَدَّتْهُ عَنْ عَايَتِهِ ، وأقامت عليه الرُّقَبَاءَ حتَّى لا يَفْلِتَ مِنْ أيديهم ، ويَحْمِلَ معه ما دَرَّتْهُ عليهِ الحِجَارَةُ مِن فِضَّةٍ وذَهَبٍ صهيب بعد هِجْرَةِ الرسول وصاحبِه يَتَحَيَّنُ الْفُرَضَ لِلْحَاقِ بهما فلم يُفْلِحُ ؛ إذ كانت أعْيُنُ الرُّقَبَاءِ ساهِرَةً عليه مُتَيَقظَةٌ له ؛ فلم يَجِدْ سَبِيلًا غَيْرَ اللجوء إلى الحيلة في ذاتِ لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ أَكْثَرَ صُهِيبٌ من الخروج إلى الخَلاءِ كَأَنَّهُ يَقْضِي الحاجة ، فكان لا يَرْجِعُ مِن قَضَاءِ حَاجَتِهِ حَتَّىٰ يَعُودَ إِلَيْهَا ببطنه.
***
فقال بعضُ رُقَبَائِهِ لبعض: طيبوا نَفْساً فَإِنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى شَغَلَاهُ ثم أوَوْا إِلَى مَضاجِعِهِمْ وَأَسْلَمُوا عُيُونَهُمْ إِلَى الْكَرَى
فتسَلَّلَ صُهَيْبٌ من بينهم، ويَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ المدينة . لم يمض غير قليل على رحيل صُهَيْبِ حَتَّى فَطِنَ له رقباؤه ، فَهَبُوا من نَوْمِهِم مَذْعُورِين ، وامْتَطَوا خيولهم السوابق ، وأَطْلَقُوا أَعِنَّتَها خَلْفَهُ حَتَّى أدْرَكُوه فلما أحَسَّ بهم ، وقف على مكانٍ عال وأَخْرَجَ سِهامه من كِنَانَتِهِ وَوَتَرَ قَوْسَهُ وقال :
يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لقد عَلِمْتُمْ – وَاللَّهِ – أَنِّي مِنْ أَرَمَى النَّاسِ وَأَحْكَمِهِمْ . ووالله لا تَصِلُونَ إِليَّ حَتَّى أَقْتُلَ بِكُلِّ سَهُم معي رجلًا مِنْكُمْ ثم أَضْرِبَكُم بِسَيْفِي ما بَقِيَ في يدي شيء منه . فقال قائل منهم واللهِ لا نَدَعُكَ تَفُوزُ مِنَّا بنفسك وبمالك لقد أَتَيْتَ مَكَّةَ صُعْلُوكاً فقيراً فاغْتَنَيْتَ وبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ فقال : أَرَأَيْتُمْ إِنْ تَرَكْتُ لَكُمْ مالي ، أَتُخَلُّونَ سبيلي ؟
قالوا : نعم .
فدَلَّهم على مَوْضِعِ مالِه في بيته في مَكَّةَ ، فَمضَوا إليه وأخذوه من أَطْلَقُوا سَراحَهُ . أَخَذَ صُهَيْبٌ يُغذُ السَّيْرَ نَحْوَ المدينة فارا بدينهِ إِلَى اللَّهِ ، غَيْرَ آسِفٍ على المال الذي أَنْفَقَ فِي جَنْبِهِ زَهْرَةَ العُمْر وكان كلما أَدْرَكَهُ الْوَنَى وأصَابَهُ التَّعَبُ ، اسْتَفَزَّهُ الشَّوْقُ إلى رسول الله ﷺ فيعودُ إليه نشاطه ، ويواصِلُ سَيْرَهُ .
فلما بلغ قُبَاءَ رآه الرسول صلواتُ الله وسلامه عليه مُقبلاً ، فَنهَضٌ لَهُ.
فهش له وبش وقال :
( رَبحَ الْبَيْعُ يَا أَبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ ) وَكَرَّرَها ثلاثاً .
فَعَلَتِ الْفَرْحَةُ وَجْهَ صُهَيْبٍ وقال :
واللَّهِ ما سَبَقَنِي إِليكَ أَحَدٌ يا رسولَ اللَّهِ
وما أَخْبَرَكَ به إِلَّا جِبْرِيلُ حقا لقد ربح البيعُ .
وصَدَّقَ ذلكَ وَحْيُ السماء.
***
وشهد عليه جبريل … حيثُ نزلَ فِي صُهِيبٍ قولُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ )
فطوبَى لِصُهَيْبِ بنِ سِنَانِ الرُّومِي ، وحُسُنُ مَآب