قفِل رَاجِعًا إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِ، وَصُورَةُ النَّبِيِّ لَا تُفَارِقُ مُخَيَّلَتَهُ، وَرَنِينُ كَلِمَاتِهِ لَا يُبَارِحُ أُذُنَيْهِ ..
وَظَلَّ يَتَتَبَّعُ أَخْبَارَهُ، وَيَتَذَكَّرُ حديثه الصادق، ثُمَّ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ :
“مَا الَّذِي جَعَلَنِي أَقْبِضُ يَدِي عَنْ بَيْعَةِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَيَقَنْتُ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ دعوته؟!”
الْمُثَـنَّى بْنُ حَـارِثَةَ الشَّيْـبَانِيُّ
قَالَ الصِّدِّيقُ: “مَنْ هَذَا الَّذِي تَأْتِي أَخْبَارُ وَقَائِعِهِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ نَسَبِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ:
هَذَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ وَإِنَّهُ لَرَجُلٌ غَيْرُ خَامِلِ الذِّكْرِ وَلَا مَجْهُولِ النَّسَبِ”.
خرَجَ رَسُولُ اللهِ الله إِلَى أَسْوَاقِ مَكَّةَ؛ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْوَافِدِينَ إِلَيْهَا مِنْ أَنْحَاءِ الْجَزِيرَةِ،
وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ …
فَرَأَوْا مَشَابِحُ لَهُمْ أَقْدَارٌ وَعَلَيْهِمْ هَيْئاتٌ
فَتَقَدَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ:
مِنْ مَنِ الْقَوْمُ؟
قالُوا: مِنْ بَنِي شَيْبَانَ بْن ثَعْلَبَةَ.
فَمَالَ عَلَى الرَّسُولِ الله وَقَالَ :
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؛ لَيْسَ فَوْقَ هَؤُلَاءِ مِنْ عِزَّ فِي قَوْمِهِمْ .
وَكَانَ فِي الْقَوْمِ الْمُتَنى بن حَارِثَةَ الشَّبانِيُّ، وَمَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِي ابْنُ قُبَيْصَةَ .
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ :
إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ خَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ الله، فَهَا هُوَ ذَا …
وَأَشَارَ إِلَى النَّبِيِّ.
فَقَالُوا: نَعَمْ .
ثُمَّ الْتَفَنُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ يُرِيدُونَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ؛ فَجَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ،
وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ يُظَلِّلُهُ بِثَوْبِهِ .
فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرِو – وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مَجْلِسًا مِنْهُ – :
إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْش؟
فَقَالَ النَّبِيُّ :
” أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ،
وَأَنْ تُؤووني، وَتَنْصُرُوني؛ حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَنِي بِهِ “.
فَقَالَ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فَتَلَا الرَّسُولُ الله قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ :
﴿وقُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾
فَقَالَ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فَوَاللَّهِ ! مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ كَلَامَهُمْ لَعَرَفْنَاهُ .
فَتَلَا الرَّسُولُ له قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
فَقَالَ لَهُ: دَعَوْتَ وَاللَّهِ – يَا أَخَا قُرَيْشِ – إِلَىٰ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ مَفْرُوقٌ إِلَى الْمُثَنَّى بن حَارِثَةَ؛ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ؛ فَقَالَ: هَذَا الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ؛ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا.
فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ كَلَامَكَ؛ لَكِنَّ أَمْرًا كَهَذَا لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَرْجِعَ فِيهِ إِلَىٰ قَوْمِنَا.
…
ثُمَّ إِنَّنَا نَزَلْنَا عَلَى مَاءٍ مُشْرِفٍ عَلَى أَرْضِ فَارِسِ، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْنَا كِسْرَىٰ عَهْدًا أَلَّا نُحْدِثَ حَدَثًا، وَأَلَّا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا،
وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ؛ مِمَّا يَكْرَهُهُ كِسْرَى وَقَوْمُهُ، وَنَحْنُ لَا قِبَلَ لَنَا بِهِمْ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبهم .
وَلَمَّا هَمُّوا بِالِانْصِرَافِ؛ الْتَفَتَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ :
“أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ بِلَادَ فَارِسَ، وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ …
أَتُسَبّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ ؟ “.
فَقَالُوا: اللهم نعم …
وَهَلْ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟!
فَقَالَ: “نَعَمْ “.
*
قَفَل الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ رَاجِعًا إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِ، وَصُورَةُ النَّبِيِّ لَا تُفَارِقُ مُخَيَّلَتَهُ، وَرَنِينُ كَلِمَاتِهِ لَا يُبَارِحُ أُذُنَيْهِ ..
وَظَلَّ يَتَتَبَّعُ أَخْبَارَهُ، وَيَتَذَكَّرُ قَوْلَتَهُ:
“أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يمنحكم اللهُ بِلَادَ فَارسَ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ”. ثُمَّ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ :
مَا الَّذِي جَعَلَنِي أَقْبِضُ يَدِي عَنْ بَيْعَةِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَيَقَنْتُ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ دعوته؟!
وفي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ؛ أَذِنَ اللهُ لِلْمُتَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ بِأَنْ يَتَشَرفَ بِالإِنْضِمَامِ إِلَى كَتَائِبِ الْإِيمَانِ ….
فَوَقَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي جُمُوعِ غَفِيرَةٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، وَأَعْلَنَ إِسْلَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَايَعَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ .
لكنَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا، حَتَّى لَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى،
وَطَفِقَ الْعَرَب يَخْرُجُونَ مِنْ دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ أَفْوَاجًا؛ فَتَصَدَّى لَهُمُ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ،
وَرَمَاهُمْ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مُسْتَمْسِكًا بِدِينِهِ .
وَكَانَ الْمُتَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ وَقَوْمُهُ مِنْ أَشَدَّ النَّاسِ بَأْسًا عَلَى الْمُرْتَدِّينَ،
وَأَعْظَمِهِمْ أَثَرًا فِي الْقَضَاءِ عَلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ الْمُدَمِّرَةِ الْعَمْيَاءِ .
*
خَرَجَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ مِنْ حُرُوبِ الرِّدَّةِ ظَافِرًا، وَوَجَدَ تَحْتَ إِمْرَتِهِ ثَمَانِيَةَ آلاف مُقَاتِلِ لَا يَعْصُونَ لَهُ أَمْرًا …
وَكَانَتْ كَلِمَةُ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنِ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بِلَادِ الْفُرْسِ مَا تَزَالُ تَرِثُ فِي أُذُنَيْهِ؛ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ :
لِمَ لَا أَضْرِبُ بِهَذَا الْجَيْشِ الْبَاسِلِ الْفُرْسَ، وَأَسْتَنْقِذُ مِنْ أَيْدِيهِمْ سَوَاد العراق ؟!
أَلَمْ يَعِدْنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُمَلْكُنَا دِيَارَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ؟!
وَهَلْ تُمْلكُ الدِّيَارُ وَتُحرَزُ الْأَمْوَالُ؛ إِلَّا بِأَسِنَّةِ الرِّمَاحَ وَشَفَرَاتِ السُّيوف ؟!
فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَمْضِي بِقَوْمِهِ إِلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ؛ دُونَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْخَلِيفَةَ بِذلِكَ؛ حَتَّى لَا يُحْرِجَهُ ….
فَإِذَا انْتَصَرَ كَانَ نَصْرُهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا،
وَإِذَا انْكَسَرَ كَانَ انْكِسَارُهُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ .
هَاجَمَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ سَوَادَ الْعِرَاقِ؛ فَجَعَلَتْ مُدُنْهُ وَقُرَاهُ تَتَسَاقَطُ تَحْتَ سنَابِكِ خَيْلِهِ كَمَا تَتَسَاقَطُ أَوْرَاقُ الشَّجَرِ فِي فَضل الْخَرِيفِ .
وَطَفِقَتْ أَخْبَارُ انْتِصَارَاتِهِ تُشَرِّقُ فِي أَنْحَاءِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَتَغَرِّبُ .
فَقَالَ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِمَنْ حَوْلَهُ:
مَنْ هَذَا الَّذِي تَأْتِينَا أَخْبَارُ انْتِصَارَاتِهِ دُونَ أَنْ نَعْلَمَ عَنْ أَمْرِهِ شَيْئًا ؟!
وَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّسَاؤُلِ؛ هُوَ الْمُثَنَّى نَفْسَهُ.
فَلَقَدْ أَسْرَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَقِي الصِّدِّيقَ، وَأَخْبَرَهُ بِغَارَاتِهِ عَلَى سَوَادِ العراق.
وَعَدَّدَ لَهُ الْمُدُنَ وَالْقُرَى وَالْحُصُونَ؛ الَّتِي حَرَّرَهَا مِنَ الْفُرْسِ، وَضَمَّهَا إِلَى دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ،
وَوَصَفَ لَهُ جَمَالَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَفْرَةَ خَيْرَاتِهَا وَكَثْرَةَ عَلَّاتِهَا،
وَأَطْلَعَهُ عَلَى حَالَةِ الْفُرْسِ، وَاضْطِرَابٍ أَمُورِهِمْ وَاخْتِلَالِ مُلْكِهِمْ
وَمَا زَالَ بِهِ؛ حَتَّى أَغْرَاهُ بِفَتْح بِلادِ فَارِس .
فَنَشِطَ الصِّدِّيقُ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ وَجَيَّشَ لَهُ الْجُيُوشَ …
وَجَعَلَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِي أَحَدَ كِبَارِ قَادَتِهِ فِي هَذِهِ الْحُرُوبِ .
خَاضَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ مَعَ جُيُوشِ الْفُرْسِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَعَارِكِ؛ كَانَ أَعْظَمُهَا مَعْرَكَةَ: بَابِلَ الشَّهِيرَةَ،
وَكَانَ مِنْ خَبَر هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ أَنَّ شَهْرَذَانَ، مَلِكَ الْفُرْس؛ أَرْسَلَ قُبيل الْمَعْرَكَةِ كِتَابًا إِلَى قَائِدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ فِيهِ:
إِنِّي قَدْ وَجَهْتُ لِحَرْبِكَ رُعَاةَ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ وَغَيرَهُمْ مِنَ الرَّعَاعِ
وَلَسْتُ أُقَاتِلُكَ إِلَّا بِهِمْ .
فَمَا أَنْتَ لِمَنْ فَوْقَهُمْ بِأَهْلِ .
فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمُثَنَّى بِرِسَالَةٍ جَاءَ فِيهَا:
مِنَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيِّ قَائِدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى شَهْرَانَ …..
ما بَعْدُ؛ فَإِنَّنَا نَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي رَدُّ كَيْدَكُمْ إِلَى نَحْرِكُمْ، وَأَحْوَجَكُمْ إِلَى رُعَاةِ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ لِلدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ …
وَغَدًا حِينَ بِلْتَقِي الْجَمْعَانِ؛ سَيَعْلَمُ الظَّالِمُونَ أَي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .
وَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ؛ أَقْبَلَ هُرْمُرُ ، قَائِدُ جَيْشِ الْفُرْسِ عَلَى رَأْسِ الْآلَافِ المؤلفة مِنْ جُنُودِهِ …
يَتَقَدَّمُهُمُ الْفِيلُ الْأَعْظَمُ الَّذِي كَانُوا يَحْتَفِظُونَ به في كُبْرِيَاتِ الْمَعَارِكِ .
فَطَفِقَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ الرَّهِيبُ الْمُدَرَّبُ؛ يَضْرِبُ جُنُودَ الْمُسْلِمِينَ بخرطومه الطويلِ الغَلِيظ؛ يَمْنَةً وَيَشرَةً .
فَوَجِلَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ، وَجَفَلَتْ مِنْ رُؤْيَتِهِ خُيُولُهُمْ، وَتَصَدَّعَ بِسَبَبِهِ نظامُهُمْ.
أَدْرَكَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ أَنَّ النَّصْرَ مُحَالٌ عَلَيْهِ؛ مَا دَامَ هَذَا الْحَيَوَانُ الْجَبَّارُ يَفْتِكُ بِجُنُودِهِ ذَلِكَ الْفَتْكَ الذَّرِيعَ،
فَتَجَرَّدَ لَهُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ رِجَالِهِ الْأَشِدَّاءِ، وَحَمَلَ عَلَى الْعَسْكَرِ الْمُحِيطِينَ بِهِ حَمْلَةٌ صَادِقَةٌ؛ زَلْزَلَتْ أَقْدَامَهُمْ وَكَشَفَتْهُمْ عَنْهُ.
…
ثُمَّ عَاجَلَهُ بِطَعْنَةٍ نَجْلَاءَ مِنْ رُمْحِهِ؛ فَأَصَابَتْ مِنْهُ مَقْتَلًا، وَأَتْبَعَهَا بطعَنَاتٍ أَخْرَيَاتٍ مُمِيتَاتٍ،
فَمَا لَبِثَ أَنْ خَرَّ الْفِيلُ صَرِيعًا عَلَى الْأَرْضِ يَسْبَحُ بِدِمَائِهِ …
فَعَلَا تَكْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَتَهْلِيلُهُمْ، وَتَدَفَقُوا عَلَى سَاحَةِ الْقِتَالِ تَدَفُّقَ السَّيْلِ،
وَأَعْمَلُوا رِمَاحَهُمْ وَسُيُوفَهُمْ فِي نُحُورِ الْأَعْدَاءِ …
وَمَا هُوَ إِلَّا قَلِيلٌ؛ حَتَّى وَلَّى رُعَاةُ الدَّجَاجِ وَالْخَنَازِيرِ الْأَدْبَارَ …
وَلَاذَ قَائِدُهُمُ هُرْمُزُ بِالْفِرَارِ .
وَاحْتَلُ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ ( بَابِلَ).
فَأَحْرَزَ مَا حَوَتْهُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَسَبَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ؛ فَجَعَلَ يُسَبِّحُ اللَّهَ الْعَظِيمَ وَيَقولُ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ .
صَدَقَ نَبِيُّ الله.
…
لَقَدْ مَلَكْنَا الْأَرْضَ، وَأَخَذْنَا الْمَالَ، وَسَبَيْنَا النِّسَاءَ .