الزُّبيـر بن العوّام رضي الله عنه

“إِنِّي أَهَبُ نَفْسِي لِلَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ يَفْتَحَ الله بها عَلَى الْمُسْلِمِينَ”
الزُّبيـر بن العوّام رضي الله عنه



إِنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلَتْ عَلَى سِيمَا الزُّبَيْرِ قَالَهَا الرَّسُولُ له يَوْمَ بَدْرٍ .

مَنْ هَذَا الْفَارِسُ الَّذِي شَقَّ بِسَيْفِهِ صُفُوفَ النَّاسِ فِي مَكَّةَ حَمِيَّةً لِرَسُولِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَن امْتَشَق  حسامًا  فِي الْإِسْلَام ؟!
مَنْ هَذَا الْكَمِيُّ الَّذِي بَعَثَهُ الْفَارُوقُ مَدَدًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي مِصرَ ، وَعَدَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَلْفٍ .
فَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ آلَافٍ ؟!
مَنْ هَذَا الْفِدَائِيُّ الَّذِي مَا عَرَفَ تَارِيحُ الْفِدَاءِ فَتًى أَشْجَعَ مِنْهُ شَجَاعَةً وَلَا أَجَلَ تَضْحِيَةً . وَلَا أَنْبَلَ  غَايَةً .
وَلَا أَكْثَرَ بَرَكَةً عَلَى الْإِسْلَامِ ؟!
إِنَّهُ الزَّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّام ؛ حَوَارِيُّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
كَانَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الدُّوَابَةِ مِنْ قُرَيْشٍ …

فنسَبُهُ يَجْتَمِعُ مَعَ نَسَبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في قصي بن كلاب وَكَانَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِب عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ وَكَانَتْ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد ؛ أَبَرَّ وَأَكْرَمَ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وُلِدَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ قُبَيْلَ الْبَعْثَةِ بِنَحْوِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة ؛ إِلَّا أَنَّهُ مَا كَادَ يُبْصِرُ النُّورَ … حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ يَتِيمًا
فَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ فِي سَاحَاتِ الْوَغَى كَمَا قُتِلَ جَدهُ مِنْ قَبْلُ .
تَوَلَّتْ أُمُّهُ صَفِيةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَرْبِيَتَهُ …
فَنَشَّأَتْهُ عَلَى الْخُشُونَةِ وَالْبَأْسِ
فَلَقَدْ كَانَتْ أُمُّهُ امْرَأَةً حَازِمَةً صَارِمَةً … فَجَعَلَتْ تَقْذِفُ بِهِ فِي كُلِّ مَخَافَةٍ ، وَتُقْحِمُهُ فِي كُلِّ خَطَرٍ ..
فَإِذَا أَعْجَمَ  أَوْ تَرَدَّدَ أَوْ قصَّرَ؛ ضَرَبَتْهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا حَتَّى إِنَّ عَمَّهُ نَوْفَلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ كَانَ يُعَاتِبُهَا عَلَى قَسْوَتِهَا عَلَيْهِ ، وَيَقُولُ :
مَا هَكَذَا يُضْرَبُ الْوَلَدُ .
إِنَّكِ لَتَضْرِبِينَهُ ضَرْبَ مُبْغِضَةٍ …

فَكَانَتْ ترتجز قَائِلَةٌ :
مَنْ قَالَ أَبْغَضْتُهُ فَقَدْ كَذَبْ
وَإِنَّمَا أَضْرِبُهُ لِكَيْ يَلِبْ
وَيَهْزِمَ الْجَيْشَ وَيَأْتِي بِالسَّلَبِ

وَلَمَّا أَشْرَقَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِنُورِ الْإِسْلَامِ ؛ كَانَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ مِنَ السَّابَقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى اعْتِنَاقِهِ .
فَقَدْ أَسْلَمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِإِسْلَامِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ فِي
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ .

وَقَدْ لَقِيَ الْفَتَى الْبَاسِلُ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ مَا تَتَضَعْضَعُ لهُ عَزَمَاتُ أَشَدِّ الرِّجَالِ ؛ فَلَمْ يَهِنْ ، وَلَمْ يَضْعُفْ فَهَذَا عَمُهُ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ يَتَفَكَّنُ فِي تَعْذِيبِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَلُفُ عَلَيْهِ الْحَصِيرَ ، وَيُوقِدُ فِي أَطْرَافِهَا النَّارَ .. عَيْنَيْهِ فَتَشْتَعِلُ فِي بُطْءٍ، وَتَبْعَثُ الْحَرَارَةَ فِي جَسَدِهِ ، وَتَنْفُث الدُّخَانَ فِي أُذُنَيْهِ وَحَيَاشِيمِهِ  وَرِثَتَيْهِ ؛ حَتَّى يُوشِكَ أَنْ يَمُوت خَنْقًا وَكَانَ عَمُّهُ يَرْقُبُهُ فِي هُدُوءٍ ؛ فَإِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الضَّنْكُ ؛ قَالَ لَهُ : عُدْ إِلَى دِينِكَ .

فَيَقُولُ : لَا أَكْفُرُ أَبَدًا وَلَمَّا هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ ؛ كَانَ الزُّبَيْرُ فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ …
فَلَقِيَ هُوَ وَإِخْوَانُهُ فِي كَنَفِ مَلِيكِهَا الصَّالِحِ؛ الْأَمْنَ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ وَالطُّمَأْنِينَةَ عَلَى دِينِهِمْ . وَطَفِقُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا وَفِيمَا هُمْ كَذَلِكَ ؛ خَرَجَ عَلَى النَّجَاشِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ ؛ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ وَأَجْتَازَ النِّيلَ لِيَلْقَاهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَجَزِعَ الْمُسْلِمُونَ أَشَدَّ الْجَزَع . قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ مَعَهُمْ : فَوَاللهِ ! مَا أَعْلَمُ أَنَّنَا حَزنًا حُزْنَا قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا أَصَابَنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ : تَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَظْهَرَ  ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى النَّجَاشِيِّ ، وَيُسْلِمَنَا إِلَىٰ قَوْمِنَا الَّذِينَ كَانُوا يَجِدُّونَ فِي طَلَبِنَا ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ رَجُلٌ يَجْتَارُ النيل ، وَيَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْم ؟! فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ :
أَنَا – وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ  الْقَوْمِ سِنا . .

قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ :
فنفخوا لَهُ قِرْبَةً ؛ فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ مَضَى يَسْبَحُ بَيْنَ الْأَمْوَاجِ وَالْحِيتَانِ ؛ حَتَّى قَطَعَ النِّيلَ مِنْ شَاطِئِهِ ، إِلَى
شَاطِئِهِ ، وَبَلَغَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ .
وفيما كُنَّا مُجْتَمِعِينَ مُتَرَقبِينَ نَدْعُو اللَّهَ لِلنَّجَاشِي بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ ؛ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا الزُّبَيْرُ ، وَهُوَ يُلَوِّحُ بِثَوْبِهِ مِنْ بَعِيدٍ ، وَيَقُولُ أَلَا أَبْشِرُوا … فَقَدْ ظَفَرَ النَّجَاشِيُّ ، وَأَهْلَكَ اللهُ عَدُوَّهُ
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ :
فَوَاللَّهِ ! مَا عَلِمْتُنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطُّ مِثْلَهَا وَلَمَّا عَادَ الزُّبَيْرُ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْحَبَشَةِ ؛ وَضَعَ شَبَابَهُ وَبَأْسَهُ وَجُرْأَتَهُ فِي سَبِيلِ
الله ورسوله …
فَقَدْ أَرْجَفَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَالُوا : إنَّهُ أُخِذَ لِيُقْتَل …
فَجَرَّدَ الْفَتَى الْبَاسِلُ سَيْفَهُ …
وَجَعَلَ يَشُقُّ بِهِ صُفُوفَ النَّاسِ شَقًّا ؛ حَتَّى بَلَغَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي أَعْلَى مَكَّةَ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( مَالَكَ يَا زُبَيْرُ ؟ ! ) . قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أُخِذْتَ أَرْجَفَ زعم سيفه فَدَعَا لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَلِسَيْفِهِ .
وَكَانَ بِذَلِكَ سَيْفُهُ ؛ أَوَّلَ سَيْفٍ سُلَّ فِي الْإِسْلَامِ .
وَلَمَّا أَذِنَ اللهُ لِنَبِيَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ … جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ ؛ لِيَشُدَّ بَعْضُهُمْ أَزْرَ بَعْضٍ .
وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا سِرًّا حَتَّى لَا تَتَصَدَّى لَهُمْ قُرَيْش ؛ إِلَّا ثَلَاثَةٌ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُسْلِمِينَ؛ خَرَجُوا فُرَادَى وَعَلَىٰ مَلَإٍ مِنْ قُرَيْشٍ …
فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيُؤْذِنُ  قُرَيْشًا بِخُرُوجِهِ ، وَيَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يَصُدُّوهُ  أَوْ يَلْحَقُوا بِهِ .
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمْ :
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ؛ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ … وَحَمْرَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم..
والزبير بن الْعَوامِ ؛ حَوَارِي رَسُولِ اللهِ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ فَرَسَيْنِ ، وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا لِلزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ ؛ فَامْتَطَى صَهْوَةَ فَرَسِهِ ، وَلَاثَ  عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءَ … ولَمَّا أَمَدَّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بِالْمَلَائِكَةِ ؛ فَإِذَا عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( إِنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلَتْ عَلَى سِيمَا الزُّبَيْرِ ) .

وَأَبْلَى الزُّبَيْرُ فِي بَدْرٍ بَلَاءً يَلِيقُ بِفَارِسٍ كَمِي مِثْلِهِ ، وَلَقِيَ طَائِفَةٌ مِنْ صَنَادِيدِ  الْمُشْرِكِينَ مَصَارِعَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ …. وَقَدْ تَتَمَلَكُكَ الدَّهْشَةُ إِذَا عَرَفْتَ أَنْ أَحَدَ صَرْعَاهُ ؛ إِنَّمَا هُوَ عَلهُ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ صَاحِبُ الْحَصِيرِ .
وَفِي يَوْمٍ أُحُدٍ ؛ بَايَعَ الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . فَلَمَّا اشْتَدَّ الْكَرْبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَطَفِقُوا يَنْهَزِمُونَ فِي كُلِّ اتِّجَاهِ ؛ رَأَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَارِسًا عَلَى فَرَسِهِ ؛ يُوقِعُ  بِالْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ الْإِيقَاعِ ، وَيَقْتُلُ رِجَالَهُمْ أَعْنف الْقَتْلِ … فَالْتَفَتَ إِلَى الزُّبَيْرِ وَقَالَ :
( إِلَيْهِ يَا زُبَيْرُ ) …
فَمَا كَادَتْ كَلِمَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَُلَامِسُ سَمْعَهُ ؛ حَتَّى هَبَّ كَالْأَسَدِ عَادِيًا ، وَصَعِدَ مَكَانًا فَوْقَ النَّاسِ ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَىٰ جَوَادِهِ ، وَاعْتَنَقَهُ وَهَوَىٰ إِلَى الْأَرْضِ ، وَجَعَلَا يَتَدَحْرَجَانِ مَعًا حَتَّىٰ عَلَا فَوْقَ صَدْرِهِ ، وَقَتَلَهُ
فَفَدَّاهُ الرَّسُولُ له بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ . حِينَئِذٍ وَفِي يَوْمِ حُنَيْنٍ ؛ أَوْشَكَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُجيعُوا بِرَسُولِ اللهِ . فَمَا زَالَ يُطَاعِنهُمْ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنْ بكرة أبيهم والْمُشْرِكُونَ لِأَحَدٍ قَادَتِهِمْ مِنْ فَارِسٍ يَضَعُ رُمْحَهُ عَلَىٰ عَاتِقِهِ ، وَيَعْصِبُ رَأْسَهُ بِمَلَاءَةٍ صَفْرَاءَ واسْتَعَانُوهُ عَلَيْهِ ، وَسَأَلُوهُ عَنْهُ ؛ فَقَالَ هذا الزبير بن الْعَوَّام … وَأَحْلِفُ باللَّاتِ وَالْعُزَّى لَيَقْتَحِمَن جُمُوعَكُمْ وَلَيْخَالِطَنَّ صُفُوفَكُمْ ، فَاثْبُتُوا لَهُ فَلَمْ يُكَذِّب الزُّبَيْرُ ظَنَّهُ إِذْ مَا لَبِثَ أَنْ قَصَدَ قَصْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَطَفِقَ يُطَاعِنُهُمْ حَتَّى خَالَطَ
صُفُوفَهُمْ ، وَأَزَاحَهُمْ عَنْهَا ظَلَّ سَيْفُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مَسْلُولًا طَوَالَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عَلَيْهِ ؛ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزْوَةٍ غَرَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ ، وَقَدْ تَحَمَّلَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَتَحَمَّلَ
حَتَّى أنَّهُ لَمْ يَبْقَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمَسْتُورَةِ ؛ إِلَّا وَقَدْ جُرحَ مَعَ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .

وَلَوْ رُحْنَا نَسْتَقْصِي صُوَرَ بُطُولَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لَوَجَدْنَاهَا لَا تَقِلُ تَأَلُقًا وَفَذَاذَةً عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ الكريم . وَحَسْبُنَا مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ الْمُشْرِقَةِ الْوَضَّاءَةِ ؛ مَا كَانَ مِنْهُ يَوْمَ فَتْحِ مِصْرَ . لَقَدْ قَصَدَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِصْرَ لِفَتْحِهَا فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَمَا إنْ أَوْغَلَ فِي أَرْضِ الْكِنَانَةِ حَتَّى شَعَرَ
بِحَاجَتِهِ إِلَى الْمَدَدِ ؛ فَكَتَبَ إِلَى الْفَارُوقِ يَسْتَمِدُّهُ بِمَا يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِهِ مِنَ جند فَتَلَفَّتَ الْفَارُوقُ حَوْلَهُ … فَلَمْ يَجِدْ خَيْرًا مِنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ يَبْعَثُ بِهِ مَدَدًا بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرَ ، وَكَانَ الزَّبَيْرُ يَوْمَئِذٍ قَدْ عَزَمَ عَلَى غَزَو أَنْطَاكِيَّةَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ هَلْ لَك فِي وَلَايَةِ مِصْرَ ؟ فَقَالَ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا ، وَلَكِنْ أَخْرُجُ مُجَاهِدًا لِلَّهِ ؛ مُعَاوِنًا لِلْمُسْلِمِينَ .
فَإِنْ وَجَدْتُ عَمْرًا قَدْ فَتَحَهَا ، لَمْ أَعْرِضْ لِعَمَلِهِ ، وَقَصَدْتُ إِلَى بَعْضِ سَوَاحِلَ فَرَابَطْتُ فِيهِ ، وَإِنْ وَجَدْتُهُ فِي جِهَادٍ كُنْتُ مَعَهُ
فَجَهَّزَ الْفَارُوقُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الزُّبَيْرَ بْنَ العوام، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ ، وَعُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ  وَمَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ .
وَكَتَبَ إِلَىٰ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ إِنِّي أَمْدَدْتُكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ رَجُلٍ ؛ عَلَى كُلِّ أَلْفٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ فِي مَقَامٍ
وَلَمَّا قَدِمَ الزُّبَيْرُ عَلَى عَمْرٍو ؛ وَجَدَهُ يُحَاصِرُ حِصْنَ بَابِلْيُونَ الْفُسْطَاطِ .
فَرَكِبْ جَوَادَهُ وَطَافَ حَوْلَ أَسْوَارِ الْحِصْن ، ثُمَّ حَدَّدَ لِرِجَالِهِ أَمَا كِنَهُمْ … وَطَالَ حِصَارُ حِصْنِ بَابِلْيُونَ ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ
إِنَّ فِي الْحِصْنِ طَاعُونًا فَقَالَ الزُّبَيْرُ : إِنَّمَا جِئْنَا لِلطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ .
وَلَمَّا أَبْطَأَ الْفَتْحُ وَكَادَ الْمَلَلُ وَالسَّآمَةُ يَنَالَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالَ الزُّبَيْرُ :
إِنِّي أَهَبُ نَفْسِي لِلَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ يَفْتَحَ الله بها عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
أَعَدَّ الزَّبَيْرُ سُلْمًا وَثِيقًا مَتِينَا ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى جِدَارٍ مِنْ جُدْرَانِ الْحِضْنِ ، وَأَمَرَ رِجَالَهُ إِذَا سَمِعُوا تَكْبِيرَهُ أَنْ يُجِيبُوهُ جَمِيعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يَلْحَقُوا بِهِ . وَمَا هُوَ إِلَّا قَلِيلٌ ؛ حَتَّى امْتَشَقَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ سَيْفَهُ ، وَصَعِدَ دَرَجَاتِ السُّلَّمِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ، وَتَسَوَّرَ جِدَارَ الْحِصْنِ وَهَتَفَ :

الله أكبر …
اللَّهُ أَكْبَرُ .
فَانْطَلَقَتْ وَرَاءَهُ آلَافُ الحَناجر تُردّدُ اللهُ أَكْبَرُ ؛ اللهُ أَكْبَرُ .
فَزَلْزَلَ دَوِيُّهَا قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ .
وَأَلْقَى الزُّبَيْرُ بِنَفْسِهِ إِلَى دَاخِلِ الْحِصْنِ .
وَتَتَابَعَ جُندُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَرَاءَهُ. الزبير بن العوام
وَأَعْمَلُوا سُيُوفَهُمْ فِي رِقَابِ الرُّومِ الَّذِينَ أَذْهَلَتْهُمُ  الْمُفَاجَأَة .
وَعَمَدَ الزُّبَيْرُ وَأَصْحَابُهُ إِلَى بَابِ الْحِصْنِ ؛ فَفَتَحُوهُ .
فَاقْتَحَمَتْهُ جُمُوعُ الْمُسْلِمِينَ …
وَانْقَضُوا عَلَى عَدُوِّهِمُ انْقِضَاضَ الصَّاعِقَةِ .
فَهَزَمُوهُ شَرَّ هَزِيمَةٍ .
وَكَتَبَ الله النَّصْرَ لِجُنْدِهِ
وَقِيلَ سُحْقًا لِلظَّالِمِينَ  .

الزُّبيرُ بنُ العوَّامِ رَضِيَ اللهُ عنه

يقولُ ابنُ كثيرٍ وهو يَستعرِضُ غَزوةَ تَبوكَ: (وقد كان فيمَن شَهِد اليرموكَ: الزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ، وهو أفضَلُ مَن هناك من الصَّحابةِ، وكان مِن فُرسانِ النَّاسِ وشِجْعانِهم، فاجتَمَع إليه جماعةٌ من الأبطالِ يومَئذٍ، فقالوا: ألا تحمِلُ فنَحمِلَ معك؟ فقال: إنَّكم لا تَثْبُتون، فقالوا: بلى! فحَمَل وحمَلوا، فلمَّا واجَهوا صُفوفَ الرُّومِ أحجَموا وأقدَمَ هو، فاختَرَق صفوفَ الرُّومِ حتَّى خرج من الجانِبِ الآخَرِ، وعاد إلى أصحابِه. ثمَّ جاؤوا إليه مرَّةً ثانيةً، ففعل كما فَعَل في الأُولى، وجُرِح يومَئذٍ جُرحَينِ بَينَ كَتِفَيه، وفي روايةٍ: جُرْحٌ) . (البداية والنهاية) (7/15)

وعن عُروةَ (أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا للزُّبيرِ: ألَا تَشُدُّ فنَشُدَّ معك؟ قال: إنِّي إن شدَدْتُ كَذَبْتُم. فقالوا: لا نفعَلُ. فحمَلَ عليهم حتى شقَّ صفوفَهم، فجاوَزَهم وما معه أحَدٌ، ثمَّ رَجَع مقبلًا، فأخذوا بلِجامِه، فضَرَبوه ضربَتَيِن: ضربةً على عاتِقِه بينهما ضربةٌ ضُرِبَها يومَ بَدرٍ. قال عُروةُ: فكُنتُ أدخِلُ أصابعي في تلك الضَّرَباتِ ألعَبُ وأنا صغيرٌ! قال: وكان معه عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ، وهو ابنُ عَشرِ سِنينَ، فحَمَله على فَرَسٍ ووكَّل به رَجُلًا) أخرجه البخاري

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة