مولد إمبراطوريّة

{إنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين}.

الموقف العام

1- المسلمون

سيطر الإسلام بعد فتح مكّة وإخضاع هوازن على جزيرة العرب كلّها حتى حدود الشام والعراق، وأصبح المسلمون مسؤولين عن إدارة هذه البلاد وتنظيم حياتها العسكرية والاجتماعية، ولم تبقَ في البلاد العربية كلّها قوّة تجرؤ على مناهضة المسلمين وإعلانهم بالعداء؛ ولكن الإسلام ليس دين العرب وحدهم، بل هو للناس كافّة، فلا بدّ من تأمين حرّية نشر تعاليمه بين العرب وغيرهم.

وإذا كان الإسلام قد انتشر في شبه الجزيرة العربية، فقد آن الأوان لنشره خارجها، بعد أن أصبح المسلمون بدرجة من القوّة والتنظيم تساعدهم على حماية حرّية انتشاره بين الناس كافّة.

2 – المنافقون

استمرّ المنافقون في المدينة، على الرغم من قلّتهم وتظاهرهم بالإسلام، على تثبيط الهمم، ونشر الروح الانهزامية، وخلق الفتن والمشاكل للمسلمين، ولكنّهم لم يكونوا بدرجة من الأهمّية والقوّة بحيث يحسب لهم المسلمون أيّ حساب. وقد أصبحوا على مرّ الزمن معروفين لأهل المدينة، لا تخفى أعمالهم على أحد.

وكان باستطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تطهير المدينة منهم، لولا رغبته في أن يتوبوا إلى رشدهم ولو بعد حين.

3- المشركون

لم يَبقَ للمشركين في شبه الجزيرة العربية أيّ قيمة عسكرية، بعد إسلام قريش، زعيمة القبائل العربية وعميدة المشركين، فقد انتشر الإسلام في القبائل العربية انتشاراً ساحقاً. وأصبح إسلام المتخلّفين من المشركين أمراً لا شكّ فيه.

وفعلاً، بدأت وفود المشركين تتسابق إلى المدينة لإعلان إسلامها، وأخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجاً.

لقد أصبح خطر المشركين لا قيمة له من الناحية العسكرية.

4 – الرومان

كانت أحوال الإمبراطورية الرومانية مضطربة، خاصّةً في بلاد الشام، فقد كَثُر تذمّر الناس من ظلم حكّام الرومان وإرهاقهم بالضرائب، لذلك أقبل كثير من القبائل العربية الخاضعة لحكم الرومان على اعتناق الإسلام.

أسلم فروة بن عمر الجذامي، قائد إحدى الفرق الرومانية التي قاتلت المسلمين في غزوة مؤتة، فقبض عليه بأمر من هرقل بتهمة الخيانة؛ وكان هرقل على استعدادٍ للإفراج عنه إذا هو عاد إلى المسيحية، ولكنّ فروة أصرّ على إسلامه، فَقُتِل.

إنّ انتشار الإسلام بين نصارى العرب أقضّ مضاجع الرومان، وجعلهم يفكّرون في القضاء على الدين الجديد قبل أن يستفحل أمره، فقاموا بتحشيد قوّاتهم على حدود الشام الجنوبية استعداداً لمهاجمة المسلمين، واستخدموا الأنباط، الذين كانوا يتاجرون مع المدينة، لنقل المعلومات إليهم عن المسلمين، تلك المعلومات التي أكّدت لهم تزايد قوّة المسلمين مادياً ومعنوياً، بحيث أصبحت تلك القوّة خطراً داهماً يهدّد الإمبراطورية الرومانية.

أسباب غزوة تبوك

١ – أسباب مباشرة
تحشّد قوّات الروم لغزو حدود العرب الشمالية والقضاء على سلطة الإسلام هناك.

2 – أسباب غير مباشرة
أ – حماية حرّية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية بعد انتشاره داخلها.
ب – تقوية معنويات القبائل العربية الخاضعة لسلطان الروم، تلك القبائل التي أخذت تُقبل على اعتناق الإسلام، على الرغم من مكافحة الرومان لهذا الاتجاه.
ج – محو أثر انسحاب المسلمين من مؤتة من النفوس.

أهداف الطرفين

١ – المسلمون

حماية حرّية نشر الإسلام في بلاد الشام، إذ هي المنفذ المهم لنشره خارج شبه الجزيرة العربية، كما أنّها المتنفّس الحيوي للتجارة العربية.

2- الروم

القضاء على منافسة المسلمين للإمبراطورية الرومانية في السيطرة على العرب الخاضعين للروم، وتحديد انتشار الدعوة الإسلامية في بلاد الشام.

قوّات الطرفين

1- المسلمون

ثلاثون ألفاً بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم عشرة آلاف راكب.

2 – الروم

قوّات نظامية كبيرة من الروم، يساندها العرب من لخم، وجذم، وعاملة، وغسّان.

الاستحضارات

١ – المسلمون

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإنجاز استحضارات الحركة لقتال الروم، ولم يَكتم نواياه في هذه الغزوة كما كان يفعل في الغزوات السابقة، كي يُباغت بهذا الكتمان عدوَّه قبل أن يستطيع التهيؤ للقتال.

لم يَكتم نواياه في غزوة تبوك، لأنّ المسافة طويلة يجب قطعها صيفاً، فلا بدّ من إكمال المؤونة والنقلية للمجاهدين قبل الحركة، حتى لا يؤدّي نقص القضايا الإدارية إلى فشل المسلمين في تحقيق هدفهم المنشود.

وليس من السهل تجهيز قوّات المسلمين الكبيرة بما تحتاجه من مؤونة ونقلية وأسلحة، ما لم يُشارك أغنياء المسلمين في تجهيز هذا الجيش مشاركة فعّالة، فأقبل هؤلاء الأغنياء على بذل أموالهم بسخاء وعن طِيب خاطر، كما أقبل المسلمون من كلّ فجّ تلبيةً لداعي الجهاد.

وانتهز المنافقون فرصة شدّة الحرّ، ونضوج الثمار، وطول المسافة، وقوّة العدوّ، فأخذوا يُثبّطون العزائم وينشرون الروح الانهزامية بين المسلمين، ولكنّهم فشلوا في محاولاتهم، إذ لم يتخلّف من المسلمين أحد غير ثلاثة رجال، ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستعين بالقوّات التي جمعها عبد الله بن أُبيّ، لأنّه لم يكن يثق بإخلاص تلك القوات، فبقي ابن أبي وأصحابه من المنافقين في المدينة.

وبقي في المدينة بعض المسلمين الذين لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، فتولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع حُزناً ألّا يجدوا ما يُنفقون.

وأنجز جيش العُسْرة استحضاراته، وتَحشَّد خارج المدينة، وأصبح مستعدّاً للحركة من كافّة الوجوه.

2- الروم

وزّع هرقل رواتب سنة كاملة على قوّاته النظامية، كما وزّع كثيراً من المال على القبائل العربية الخاضعة لسيطرته، تشجيعاً لهم على معاونة جيشه.

وبعد إنجاز استحضارات قوّاته، أرسل طلائعها إلى (البلقاء) لستر التحشد الذي تمّ بعد ذلك في منطقة تبوك.

الحركة

1 – المسلمون

ترك جيش المسلمين المدينة في رجب من السنة التاسعة للهجرة، وأخذ يقطع الصحراء القاحلة في موسم الحرّ الشديد. فلمّا وصل منازل ثمود في (الحِجْر)، تلك المنطقة التي تهبّ فيها العواصف الرملية بين حينٍ وآخر فتطمر قافلةً بكاملها، أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ألّا يخرج أحدهم إلّا ومعه صاحبه، وهناك عطش المسلمون عطشاً شديداً، ولولا سقوط المطر عليهم يومذاك، لهلك كثيرٌ من المسلمين عطشاً.

واستمرّ الجيش على المسير حتى وصل تبوك، وكانت المراحل تُقطع ليلاً للتخلّص من الحرّ الشديد، حتى وصلوا تبوك، فلم يجدوا قوّات الروم هناك. فقرّر الرسول صلى الله عليه وسلم البقاء في تبوك بقوّاته الرئيسية بعد أن علم بانسحاب الروم إلى الشمال.

2 – الروم

تمّ تحشيد قوّات الروم المؤلّفة من جنودها النظاميين ومن القبائل العربية الموالية لها في تبوك قبل وصول المسلمين إليها، ولكنّ المعلومات التي وصلت إليهم عن ضخامة عدد جيش المسلمين وقوة معنوياته اضطرت الروم إلى الانسحاب عن تبوك شمالاً.

السيطرة على المنطقة

1- مصالحة صاحب إيلة

وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوحنا بن رؤبة صاحب إيلة، رسالة يطلب فيها منه أن يذعن للمسلمين أو يغزوه؛ فأقبل يوحنا بنفسه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقدم له الهدايا والطاعة. وكان نص وثيقة الصلح بين المسلمين ويوحنا ما يلي:

“بسم الله الرحمن الرحيم،
هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل إيلة، سفنهم وسيارتهم في البرّ والبحر لهم ذمّة الله ومحمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنّه طيّب لمحمد أخذه من الناس. وإنّه لا يحلّ أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر”.

واتفق الطرفان أن تدفع إيلة جزية قدرها ثلاثمائة دينار في كل عام.

2- مصلحة أهل الجرباء وأذرح

تمّ الصلح بين المسلمين وأهل الجرباء، وهي قرية في منطقة عمان بالبلقاء من أرض الشام، وبين المسلمين وأهل أذرح، وهي بلدة قريبة من الجرباء، على الجزية أيضاً.

3- مصالحة أهل دومة الجندل

بعث النبي خالد بن الوليد في خمسمائة فارس إلى دومة الجندل، فباغت خالد الأكيدر مليكها وأخاه حسان وهما يطاردان بقر الوحش، فقتل حسان وأسر الأكيدر. فهدّده خالد بالقتل إن لم تفتح دومة الجندل أبوابها للمسلمين.

فتحت المدينة أبوابها فداءً لمليكها، فدخلها المسلمون وغنموا منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من بر وأربعمائة درع، وذهب بها خالد ومعه الأكيدر حتى لحق بالنبي في المدينة. فحقن الرسول صلى الله عليه وسلم دم الأكيدر وصالحه على الجزية، وتركه يعود إلى قومه في دومة الجندل.

عودة المسلمين

أقام المسلمون حوالي عشرين يوماً في منطقة تبوك، انتظاراً لعودة جيوش الرومان، وتأميناً للحدود الشمالية بعقد المعاهدات مع سكانها، وتدعيماً لهيبة الإسلام في نفوس القبائل، والعمل على حماية حرية نشر الدعوة في تلك الأرجاء. فلما أنجزوا كل ذلك، تحرّكوا عائدين إلى المدينة.

وصل المسلمون إلى المدينة، فجاء المتخلّفون عن الخروج يعتذرون، وكان هؤلاء المتخلّفون قسمين:

  • القسم الأول من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، وهؤلاء أعرض عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم تاركاً لله حسابهم.
  • القسم الثاني من المسلمين الذين لا شائبة في إسلامهم، وهم ثلاثة: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وهؤلاء اعترفوا بذنبهم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعرضوا عنهم حتى يأتي أمر الله.

دروس من تبوك

الحرب الإجماعية

الحرب الإجماعية أو الحرب الاعتصابية أو الحرب المطلقة معناها: تحشيد كافة قوى الأمة – لا الجيش وحده – المادية والمعنوية والعقلية للأغراض الحربية.

نشر لودندروف آراءه عن الحرب الإجماعية في كتابه “الأمة في الحرب”، ومجمل آراء هذا القائد: أن الحرب الحديثة لم تبق حرب جيوش وقوى عسكرية فقط، وإنما هي حرب إجماعية تقوم على حرب الأمم ضد الأمم. ولهذا يجب أن تضع الأمة كل قواها العقلية والأدبية والمادية في خدمة الحرب، وأن تكون هذه القوة مخصصة للحرب التالية.

ويرى لودندروف بالإضافة إلى ذلك، أن الحرب وسيلة لا غاية، ولهذا يجب أن تعد الأمة كلها للحرب، وأن تكون دائماً على قدم الاستعداد. واجب النساء ينحصر في إنتاج أبناء أقوياء للأمة يحملون أعباء الحرب الإجماعية، وواجب الرجال ينحصر في تحشيد كل قواهم لهذه الغاية.

هذه مجمل آراء لودندروف في الحرب الإجماعية التي اعتبرها العسكريون آراء جديدة، وراحوا يفسرونها وينشرون مبادئها ويحثون على الأخذ بها.

إن الحرب الإجماعية التي طبقتها ألمانيا وإيطاليا وروسيا في الحرب العالمية الثانية، ليست جديدة… فقد طبقها المسلمون قبل أربعة عشر قرناً خلت.

ولكن هناك فرقاً واحداً بين حرب الأمم الحديثة وحرب المسلمين قديماً، هذا الفرق هو أن حرب المسلمين حرب دفاعية غايتها نشر السلام وتوطيد أركانه، فهي حرب الفروسية بكل ما في الكلمة من معاني.

يقول القرآن الكريم: “انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله…”. لذلك، فقد كان المسلمون كلهم جنوداً، وكانت أموالهم كلها لإدامة هؤلاء الجنود.

كان عدد المسلمين ثلاثين ألفاً في غزوة تبوك بينهم عشرة آلاف فارس، وقد تحركوا صيفاً في موسم قحط شديد لمسافة طويلة في الصحراء، فليس من السهل إدامة مثل هذا الجيش الكبير في مثل تلك الظروف القاسية بمواد الإعاشة والماء والنقلية والسلاح. لذلك سُمي هذا الجيش بـ “جيش العسرة”: اشترك فيه المسلمون كلهم عدا ثلاثة تخلفوا عنه، واشترك المسلمون كلهم في تجهيزه.

أنفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من مال، وكان له يوم أسلم أربعون ألف دينار أنفقها كلها في سبيل الله، حتى تخلل بالعباءة! وأنفق عثمان ثلاثمائة بعير وألف دينار، وانفق عمر بن الخطاب نصف ماله، كما أنفق العباس وطلحة وعاصم بن عدي كثيراً من المال. وبهذا الإنفاق السخي، أمكن تجهيز هذا العدد العظيم من جيش العسرة.

إن المسلمين عرفوا الحرب الإجماعية قبل أن يعرفها العالم بأربعة عشر قرناً، ولكن شتان بين حرب الفروسية التي عرفها المسلمون وحرب العدوان التي عرفها العصر الحديث.

2 – عقاب المتخلفين

يتخلف عن الاشتراك في القتال في كل حرب قديمة أو حديثة بعض الجنود لأسباب شتى، وفي كل أمة قوانين معينة يُعاقب بموجبها المتخلفون.

ويهمنا أن تعرف أن كثيراً من عوائل المتخلفين أبيدت عن بكرة أبيها في الدول التي طبقت الحرب الإجماعية خلال الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين، بمثل هذه القسوة الفظيعة التي أخذ بها البريء بذنب الجاني. في حرب حديثة بأمم راقية، استطاعت تلك الأمم بمثل هذه القوة التقليل من التخلف بين صفوف جنودها عندما كانت في أوج قوتها، فلما تداعت قواتها تحت مطارق الحرب، تكاثر المتخلفون في صفوفها رغم قوانينها الرادعة.

ويهمني بعد ذلك أن تعرف كيف عالج الإسلام قضية التخلف بالعقاب النفسي، الذي أخذ المسيء وحده بذنبه، دون أن يلحق بغيره من الأبرياء أي عقاب.

اسمع قصة تخلف كعب بن مالك كما يرويها بنفسه، لترى كيف كان عقاب المتخلفين في الإسلام!

قال كعب: “فجئته فلما سلمت عليه (يقصد على الرسول صلى الله عليه وسلم) تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟

فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله.. لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت.

وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني يؤنبوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.

قال كعب: “فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي.

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.

فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني.

حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام. فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت له فنشدته، فسكت.. فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.

قال كعب: “فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشأم ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا من البلاء أيضا. قد بلغ ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك، فعدت بها إلى تنور، فسجرته بها”.

قال: “حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها.

وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر:. قال كعب: “فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا”.

قال كعب: “فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب.

فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله: قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر”. قال: “فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج.

وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر.

..انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة”.

قال كعب: “فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه.

فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت”.

أي عقاب نفسي هذا الذي جعل المتخلف يقدم بين يدي توبته شرطين ما أصعبها وما أشقها: التنازل عن المال، والصدق في القول. ليس من السهل أن يتنازل المرء عن ماله، وأصعب من ذلك الثبات على الصدق في جميع الأحوال والظروف.

فأي أثر عظيم تركه هذا العقاب النفسي الصارم، وأين هذا العقاب الذي طبقه المسلمون على المتخلفين في القرن السابع من هذا العقاب الذي طبقته أرقى الدول على المتخلفين في القرن العشرين؟

3- التدريب العنيف

تعمل الجيوش الحديثة على تدريب جنودها تدريباً عنيفاً: اجتياز موانع وعراقيل صعبة جداً، وقطع مسافات طويلة في ظروف جوية مختلفة، وحرمان من الطعام والماء بعض الوقت وذلك لإعداد هؤلاء الجنود لتحمل أصعب المواقف المحتمل مصادفتها في الحرب.

لقد تحمّل جيش العسرة مشقات لا تقل صعوبة عن مشقات هذا التدريب العنيف إن لم تكن أصعب منها بكثير: تركوا المدينة في موسم نضج ثمارها، وقطعوا مسافات طويلة شاقة في صحراء الجزيرة العربية صيفاً، وتحملوا الجوع والعطش مدة طويلة. يقول عمر بن الخطاب: (خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه. ثم يجعل ما بقي من الماء على كبده).

إن غزوة تبوك تدريب عنيف للمسلمين، كان غرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه إعدادهم لتحمّل رسالة حماية حرية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية وتكوين الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، فقد كانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الاطمئنان إلى كفاءة جنوده قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى.

4- المسير الليلي (السرى)

قطع المسلمون أكثر المراحل بين المدينة وتبوك ليلاً ليتخلصوا من الحر الشديد.
إن الحركة ليلاً في موسم الحر ضرورية جداً خاصة في الصحراء، وهذا ما تطبقه الجيوش الحديثة في العصر الحاضر.

5- المعنويات

يمكن اعتبار غزوة تبوك معركة معنويات لا معركة ميدان.

لم بستطع المسلمون الاصطدام بالجيش الروماني وحلفائه، لانسحاب جيوشهم من منطقة تحشدها في تبوك، بعد أن وصلتهم معلومات وثيقة عن قوة المسلمين مادياً ومعنوياً، ومع ذلك فقد انتصر المسلمون في غزوة تبوك على الروم انتصاراً معنوياً لا يقل أهمية عن الانتصار المادي في القتال.

لقد أدى اندحار الرومان معنوياً في غزوة تبوك، إلى تفكير القبائل العربية الخاضعة لهم بعدم جدوى اعتمادهم عليهم لينالوا حمايتهم، ولا بد لهم من التحالف مع المسلمين الأقوياء ليضمنوا لهم الحماية والاستقرار، لذلك أقبلت تلك القبائل على مصالحة المسلمين وموالاتهم، وازداد انتشار الإسلام فيها عما كان عليه بعد غزوة مؤتة.

6 – المعلومات

لقد كانت استخبارات الروم عن حركات المسلمين ونواياهم قوية جداً،

وكانوا يستخدمون الأنباط الذين يتاجرون مع المدينة وبعض أفراد القبائل العربية الموالية لهم، في نقل المعلومات إليهم عن المسلمين.

لقد رأيت كيف عرف ملك غسان الموالي للروم غضب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على كعب بن مالك لتخلفه عنهم يوم تبوك، وكيف أرسل إليه رسالة يعرض عليه فيها الالتحاق بالغساسنة، فإذا استطاع الروم وأحلافهم الاطلاع على مثل هذه القضية التافهة، فمن المؤكد أنهم استطاعوا الاطلاع على القضايا المهمة خاصة القضايا التي لها تأثير على الموقف العسكري حينذاك.

لقد كانت عيون الروم منتشرة في المدينة لإحصاء حركات المسلمين وسكناتهم وتزويد الرومان بكل ذلك؛ ولم يكن المسلمون غافلين عن حركات الروم فقد استطاعوا معرفة تحشدات قطاعاتهم ومواضع تلك التحشدات ونواياهم مبكراً وبصورة مفصلة، مما جعلهم يتحركون إلى تبوك للقضاء على قوات الروم قبل أن يستفحل أمرها وتتعرض بالحدود الإسلامية.

لقد كانت محاولات الحصول على المعلومات من المسلمين والروم ممتازة جداً.

7- الضبط

إن إقبال المسلمين على الانخراط في جيش العسرة وتحملهم المشقات بنفس رضية قانعة، يدل على مبلغ الضبط العالي الذي وصلوا إليه.

إن الضبط أساس الجيش، ولا ينجح الجيش الذي لا يتحلى بالضبط في أية معركة مهما يكن عدده كثيراً وسلاحه مؤثراً، وإذا كان هناك فرق واضح بين العسكريين والمدنيين فهو الضبط الذي يتمسك به العسكريون قبل كل شيء.

إن إطاعة المسلمين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قائدهم في هجر المتخلفين دليل على ضبطهم المتين، وأي ضبط هذا الذي جعل أمر القائد ينفذه أهل المتخلف حتى زوجه وأولاده بشكل أدق وأعنف مما ينفذه الغرباء عنه، وهو في محنته القاسية التي تستدر العطف والإشفاق من الناس جميعاً.

ولكن هذه الأوامر كانت للمصلحة العامة، والمسلمون كلهم جنود مخلصون لهذه المصلحة.

النتائج

يمكن إجمال نتائج غزوة تبوك بما يلي:
١ – رفع معنويات المسلمين تجاه الروم وحلفائهم وعند العرب في شبه الجزيرة العربية كلها. وبذلك استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل المسلمين يعتقدون بأن في إمكانهم محاربة الروم والتغلب عليهم.

لم يكن العرب (يحلمون) قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يستطيعون صد اعتداء الروم عليهم في عقر بلادهم، فأصبحوا (يعتقدون) بعد تبوك بأن في مقدورهم محاربة الروم في بلاد الروم نفسها والقضاء على جيوشهم هناك.

٢ – قضى انتصار المسلمين المعنوي على الروم قضاء تاماً على تردد المتخلفين عن الإسلام من العرب، فإذا كانت قوات المسلمين تهدد الروم في عقر دارهم، فكيف تستطيع قوات القبائل العربية الصمود تجاه تلك القوات؟!

لذلك أقبلت وفود القبائل إلى المدينة بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبوك إليها معلنة إسلامها، وأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ولهذا سمي هذا العام بعام الوفود.

٣ – استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم تنظيم نقاط ارتكاز على الحدود الشمالية التي تربط شبه الجزيرة العربية ببلاد الشام الخاضعة للرومان، وذلك بعقد المحالفات مع سكان تلك المنطقة وإقبال بعضهم على الإسلام.

إن نقاط الارتكاز هذه سهلت مهمة الفتح الإسلامي على عهد الخلفاء الراشدين، فمنها انطلقت قوات المسلمين إلى الشمال وعليها ارتكزت لتحقيق هدفها العظيم.

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة