﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ﴾ [ الفتح: 27] القرآن الكريم.
ثمرات الحديبية
الموقف العام
1 – المسلمون
أتاح الاستقرار الذي كان من ثمرات الهدنة للمسلمين، التفرغ للتبشير بالدعوة الإسلامية داخل الجزيرة العربية كلها وخارجها، فأوفد الرسول صلى الله عليه وسلم دعاته إلى الملوك والأمراء والرؤساء النابهين يدعوهم إلى الإسلام .
وقد أصبحت المنطقة الكائنة جنوب المدينة أمينة بالنسبة للمسلمين، ولم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية غير خصمين:
اليهود في منطقة خيبر وما حولها، والأعراب في شمال المدينة .
وكان الموقف يتطلب القضاء على هذين الخصمين ليتفرغ المسلمون بعد إكمال تحشدهم إلى خصمهم الأكبر والى هدفهم الرئيسي: قريش ومكة.
2 – المشركون
لقد كسدت تجارة قريش قبل الهدنة، فأرادت بعد عقدها أن تعود إلى
إرسال قوافلها التجارية على طريق مكة – الشام، بعد أن حرمت من سلوكها مدة طويلة .
وفعلا تحركت قوافلها إلى الشام، ولكن أبا بصير وأصحابه المغاوير
(الكومندو) الذين ردّهم المسلمون تنفيذاً لشروط هدنة الحديبية، حددوا حرية حركة قوافل قريش إلى الشام، فأخذوا يتعرضون بكل قافلة تمر بهم فيقضون على حراسها ويعبثون بأموالها. بعد أن تركوا أهلهم وأموالهم بمكة .
ولم تنعم قريش بنعمة الاستقرار إلا بعد أن سألت الرسول صلى الله عليه وسلم بإلحاح أن يؤوي إليه أبا بصير وأصحابه متنازلة بمحض إرادتها للمسلمين عن شرط الهدنة الذي يقضي برد المسلمين الذين يقصدون المدينة بدون موافقة أوليائهم إلى قريش .
3- اليهود
استمر يهود خيبر وما جاورها على تحريض القبائل وجمع الأحلاف ضـد المسلمين وقذف الإسلام بالتهم وإيواء أعداء المسلمين والغدر بالمسلمين كلما رأوا إلى ذلك سبيلا .
لقد كانوا موطن خطر يهدد المسلمين في الشمال، والهدنة حرمتهم من معاونة قريش، فاستمالوا غطفان لمعاونتهم عندما يتهددهم الخطر.
إنهم ينظرون إلى مصلحتهم الخاصة، ولا يبالون لكي يحصلوا عليها ان يستخدموا أي وسيلة .
الهدف الحيوي
إكمال تحشيد قوى المسلمين استعداداً لمعركة الإسلام الحاسمة ضد قريش .
غزوة خيبر
1 – أسباب الغزوة
أ – أسباب مباشرة
القضاء على تحريض اليهود ضد المسلمين .
ب – أسباب غير مباشرة
القضاء على اليهود نهائياً للتخلص من أقوى أعداء المدينة في المنطقة الشمالية ولتكون المنطقة أمينة عندما يحين موعد محاسبة قريش .
2 – قوات الطرفين
أ ) – المسلمون
أربعمائة وألف رجل بينهم مائتا فارس بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي القوات التي حضرت الحديبية .
ب ) – اليهود
جود خيبر الذين يقدرون بألف واربعماية نسمة بقيادة سلام بن مشكم.
3- الهدف
القضاء على اليهود للتخلص من المشاكل الخطيرة التي يعملون لا ثارتها ضد المسلمين.
4- سير الحوادث
1) الأعمال التمهيدية
اقام الرسول صلى الله عليه وسلم حوالي الشهر الواحد بالمدينة بعد عودته من الحديبية، ثم تحرك بأصحابه إلى موضع ( الرجيع ) ليحول بين تعاون يهود خيبر وغطفان في قتال المسلمين، فقد استطاع اليهود أن يضمنوا معاونة غطفان لهم إذا داهمهم الخطر وبهذه الحركة استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم إيهام غطفان بأن الهجوم موجه ضدهم وان قوات المسلمين توشك إن تطوقهم .
وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ولكنه أرسل مفرزة من أصحابه لمباغتة ديار غطفان بعد ان تركتها قوات غطفان لمعاونة اليهود. ونجحت هذه المفرزة في إلقاء الرعب في ديار غطفان، مما اضطر هذه القبيلة إلى الإسراع بالعودة إلى ديارها لحمايتها من تهديد المسلمين، وتركت اليهود وحدهم أمام المسلمين .
وهكذا نجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في عزل اليهود عن غطفان حلفائهم .
ب ) – القتال
وصلت قوات المسلمين قرية خيبر ليلا، فلم يعرف اليهود بأنهم أصبحوا . طوقين بقوات المسلمين إلا عند خروج بعض الفلاحين صباحاً ليباشروا أعمالهم، فلما رأوا جيش المسلمين عادوا أدراجهم.
وبدأ قتال المدن والأحراش بين المسلمين واليهود، ولم يكن هذا القتال سهلا لأن خيبر محصنة تكتنفها البساتين، ولأن يهود خيبر أقوياء مسلحون أغنياء .
أدخل اليهود أموالهم وعيالهم حصني ( الوطيح والسلالم )، وأدخلوا ذخائرهم حصن ناعم، ودخلت قواتهم حصن نطاة وابتدأ هجوم المسلمين بشدة من أول يوم للتأثير على معنويات اليهود، حتى بلغ عدد جرحى المسلمين في هذا اليوم خمسين جريحاً.
وخرجت مغرزة من اليهود لمقاتلة المسلمين بالعراء بقيادة الحارث بن أبي زينب بعد أن قتل سلام بن مشكم، ولكن الخزرج اضطروه بهجوم مقابل الى الالتجاء إلى حصنه.
واستمات المسلمون في الهجوم، واستملت اليهود في الدفاع فقد كانوا يعلمون تماماً أن اندحارهم معناه القضاء الأخير على بني إسرائيل في الجزيرة العربية.
ركز المسلمون هجومهم الرئيسي على حصن ( ناعم ) وبقيت قوتهم الثانوية تشاغل الحصون الأخرى، كي تمنع قوات اليهود من التعاون فيما بينها وتحرمها من معرفة اتجاه الهجوم الحقيقي .
واستمر الهجوم العنيف على حصن (ناعم) ثلاثة أيام: بقي اليهود داخل الحصن في اليومين الأولين وخرجوا منه في اليوم الثالث للقتال خــــارجه بعد تشديد الحصار عليهم في اليومين السابقين، فانتهز المسلمون فرصة خروجهم ودارت حول الحصن معركة في العراء قتل فيها قائد اليهود الحارث بن أبي زينب، فاستسلم الحصن للمسلمين .
أثر سقوط هذا الحصن على معنويات اليهود، فاستسلم بعده حصن (القموص ) بعد قتال شديد، ولكن إعاشة المسلمين نفدت ، فوجهوا هجومهم الرئيسي على حصن الصعب بن معاذ الذي كان اليهود قد كدسوا فيه كثيراً من المواد الغذائية فاستطاعوا الاستيلاء على هذا الحصن، واستفادوا من مواد الإعاشة المتيسرة فيه، مما خفف وطأة المشكلة الإدارية .
واستمات اليهود بعد ذلك في الدفاع عن حصونهم الأخرى، والحق أن دفاعهم عن حصونهم كان دفاع الأبطال .
وركز المسلمون هجومهم على حصن ( الزبير ) ولكنه استعصى عليهم، فقرروا قطع الماء عنه، وبذلك اضطروا اليهود المدافعين فيه إلى الخروج عنه فقاتلهم المسلمون في العراء وقضوا على أكثرهم، وألجأوا الباقين من اليهود إلى الفرار .
وأخذت الحصون تسقط بالتعاقب بيد المسلمين، حتى سقطت الحصون كلها إلا حصن الوطيع والسلالم، وكانا آخر حصين منيعين لليهود .
وتجمعت قوات المسلمين كلها حول هذين الحصنين، وضيقوا الحصار على اليهود، وحينذاك طلب اليهود الصلح على أن يحقن المسلمون دماءهم .
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم بشرطهم، وأبقاهم على أرضهم على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم فيها، لأن موقف المسلمين لم يكن يساعد على الاستغناء عن بعض قواتهم للقيام بزراعة الأرض، ولأن اليهود كانوا ماهرين في الزراعة واستثمار الأرض .
5 – خسائر الطرفين
أ – المسلمون
تسعة عشر شهيداً مع كثير من الجرحي .
ب – اليهود
كانت خسائرهم بالأرواح كبيرة جداً، كما خسروا أموالهم وأملاكهم .
نهاية اليهود في الجزيرة
1 – يهود فدك
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء معركة خيبر الى أهل فدك من يدعوهم الى الإسلام
او الاستسلام للمسلمين، وكانت معنوياتهم واطئة جداً ، فتصالحوا بنفس شروط خيبر دون قتال.
2- يهود وادي القرى
عاد المسلمون الى المدينة عن طريق ( وادي القرى ) فأنجز اليهود هناك استحضاراتهم للقتال .
ونشبت معركة محدودة استمرت يضع ساعات انتهت باستلام اليهود،
فصالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ما صالح عليه يهود خيبر.
3- يهود تيماء
استسلم يهود تيماء بدون قتال للمسلمين بنفس شروط يهود خيبر أيضاً .
4- النتائج
القضاء على اليهود عسكرياً في الجزيرة العربية
الهدف
السيطرة على الأعراب
توطيد الأمن في المنطقة الشمالية بصورة خاصة، ومنع غارات الأعراب على المدينة، وحماية الدعاة من غدر القبائل .
النتائج
أ- توطيد هيبة المسلمين في المنطقة الشمالية ( شمال المدينة) .
ب – حماية الدعاة من غدر القبائل بهم .
ج – اتشار الإسلام بين القبائل الشمالية .
غزوة مؤتة
1-أسباب الغزوة
آ – تأديب الأعراب الذين غدروا بدعاة المسلمين ( بذات الطلح ) على حدود الشام .
ب – تأديب عامل هرقل على بصرى ومن ينصره من القبائل لسكوته عن اغتيال حامل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إليه .
2 – قوات الطرفين
أ – المسلمون
ثلاثة آلاف مسلم بقيادة زيد بن حارثة الكلبي فجعفر بن أبي طالب فعبد الله ابن رواحة بالتعاقب .
ب ـ المشركون والروم
مائة ألف من الروم ومثله من القبائل الموالية بقيادة هرقل، كما تذكر كثير من المصادر التاريخية، يقول خطاب شيت:”ولكنني أعتقد أن هذا العدد مبالغ فيه كثيراً وأن الجيش لم يكن بقيادة هرقل نفسه، بل بقيادة أحد قادة جيوشه” .
3- الهدف
تأديب القبائل لغدرها بالمسلمين، وإظهار قوة المسلمين للروم والقبائل المتاخمة للشام. ولاستطلاع قوة وكفاءة قبائل الحدود والرومان وطبيعة الأرض هناك.
4- سير الحوادث.
أ – الأعمال التمهيدية
خرج المسلمون في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، فودعهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأوصاهم محمد صلى الله عليه وسلم ألا يقتلوا النساء والأطفال ولا المكفوفين وألا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار.
وصلت قوات المسلمين ( معان ) من أرض الشام، ولكن أنباء حركتهم وصلت إلى الروم قبل وصول المسلمين إليهم، فحشدوا قواتهم في ( مـآب ) من أرض البلقاء، فلما علم المسلمون بأمر جموع الروم المتفوقة على قواتهم تفوقاً ساحقاً، تذاكروا بينهم، فرأى بعضهم أن يكتبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالموقف ويتلقوا أوامره النهائية، ولكن أكثرهم رأوا أن يمضوا لهدفهم مهما تكن النتائج.
قال لهم عبد الله بن رواحة : « يا قوم والله إن التي تكرهون التي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة”.
قال الناس: صدق ابن رواحة.
ب – القتال
تحرك المسلمون نحو جيوش الروم وحلفائهم من القبائل فحصلوا على التماس الأول في قرية ( مشارف ) بتخوم البلقاء، ولكن المسلمين رأوا إن منطقة قرية ( مؤتة ) – بين الكرك والطفيلة – أنسب لقبول المعركة فيها وذلك لوجود العوارض الطبيعية التي يستطيعون التحصن بها نظراً لقلة قوتهم بالنسبة إلى الأعداء.
بدأ القتال بين قوتين غير متكافئتين عدداً وعدداً. وقد لاحظ المسلمون تفوق الروم وحلفائهم عليهم، ولكنهم لم يكترثوا بذلك.
وبدء الهجوم باندفاع زيد بن حارثة بالراية إلى صفوف العدو، فحـارب مستقتلا مستميتاً حتى مزقته رماح العدو.
تناول الراية جعفر بن أبي طالب واندفع بها، فأصيبت يده اليمنى، فتناول الراية بشماله فقطعت ايضاً، فاحتضن الراية بعضديه حتى استشهد.
وأخذ عبد الله بن رواحة الراية، فقاتل بها حتى قتل أيضاً .
وتناول الراية ثابت بن أرقم ، فهتف بالمسلمين: يا قوم اصطلحوا على رجل منكم ..
واصطلح الناس على خالد بن الوليد.
ج) الانسحاب
قرر خالد الانسحاب من هذه المعركة لتخليص قوات المسلمين من المأزق الخرج الذي وقعوا فيه، واستفاد من حلول الظلام، فأعاد تنظيم قواته وألف مؤخرة قوية لحماية الانسحاب .
قامت مؤخرة المسلمين بقتال التعويق لإحباط مطاردة العدو وإنقاذ القسم الاكبر من قوات المسلمين من التطويق الذي يعقبه الفناء، وقد انتشرت مؤخرة المسلمين في جبهة واسعة وأحدثت ضجة عالية لإيهام العدو بقدوم إمدادات جديدة للمسلمين والحرمان العدو من معرفة انسحاب قوات المسلمين حتى لا يطاردها العدو فيكبدها خسائر فادحة بقواتها، وبذلك استطاعت هذه المؤخرة النجاح في مهمتها، فلم يتكبد المسلمون في انسحابهم خسائر تذكر على الرغم من أن حركة الانسحاب من أصعب الحركات العسكرية، لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، والهزيمة كارثة تؤدي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين .
وعاد المسلمون إلى المدينة ليستقبلهم أهل المدينة من المسلمين يحثون التراب على وجوههم قائلين لهم: يا فرار ! فررتم في سبيل الله؟
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابهم: إنهم ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار ان شاء الله .
5- خسائر الطرفين
أ) المسلمون
استشهد من المسلمين اثنا عشر رجلاً .
ب ) الروم والمشركون
كانت خسائرهم أضعاف خسائر المسلمين مما أثر على معنوياتهم، ولذلك لم يقوموا بمطاردة المسلمين مطاردة حاسمة تقضي على قواتهم كلها .
النتيجة
كانت معركة مؤتة معركة استطلاعية أفادت المسلمين كثيراً في معرفة خواص قوات الروم وأساليب قتالها، فأفادوا من هذه المعلومات في قتالهم بعد ذلك للروم .
ولا تعد خسائر المسلمين الطفيفة شيئاً يذكر بجانب الفائدة العسكرية التي أفادوها من الاطلاع على خواص قوات الروم وتنظيمها وتسليحها وأساليب قتالها، ما سنرى أثره في المعارك التي خاضها المسلمون فيما بعد,
غزوة ذات السلاسل
1 – أسباب الغزوة
أخذ ثأر للمسلمين من القبائل التي اشتركت في غزوة مؤتة: وهي من لحم وجذام وبلقين وبهراء وبلى وطيء وعذرة .
2 – سير الحوادث
قرر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودة المسلمين من مؤتة أن يسترد هيبة المسلمين في المنطقة الشمالية، فأرسل عمرو بن العاص يستنفر العرب الى الشام، وذلك لأن أمه من قبائل تلك المنطقة، فمن السهل عليه أن يستميلهم إلى جانبه .
فلما وصل ماء ذات السلاسل من أرض جذام، خشي من كثرة عدوه، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمده بالرجال، وبقي ينتظر المدد في موضع ذات السلاسل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً من المهاجرين الأولين: فيهم أبو بكر وعمر بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ووصاه حين وجهه نجدة لعمر و ألا يختلفا لما وصل أبو عبيدة، قال له عمرو: ” إنما جئت مدداً لي” . قال أبو عبيدة: ” لا ، ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه”.
قال عمرو : “وأنت مدد لي “.
قال أبو عبيدة : ” يا عمرو إن رسول الله قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك “.
أخذ عمرو يطارد القبائل الموالية للروم، فتوغل في دوار بلى وعذرة وبلقين وطيء وكلما انتهى إلى موضع فرت القبائل التي كانت فيه، واستطاع مرة واحدة الاصطدام يجموع من القبائل، ولكنها فرت لا تاوي على شيء .
وبذلك شتت جموع قبائل الشام، وأعاد هيبة المسلمين إلى نفوس القبائل القاطنين هناك .
دروس من ثمرات الهدنة
1 – القضايا التعبوية
أ – المباغتة
حركة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتجاه ( الرجيع ) وعودته إلى خيبر، وقيامه بإرسال مفرزة صغيرة إلى ديار غطفان ليجبرها على العودة لحماية أموالها وذراريها والنكوص عن معاونة حلفائهم اليهود في محنتهم، مما أدى إلى إيهام غطفان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريدهم بقواته، وإيهام اليهود بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد غطفان ولا يريدها، كل ذلك كان مباغتة كاملة لليهود وغطفان على حد سواء .
كما يعتبر مسير اقتراب قوات المسلمين إلى خيبر ووصولها ليلا إلى منطقة خيبر دون أن يستطيع اليهود معرفة وصولها – يعتبر ذلك مثالاً ممتازاً لضبط المسير ومباغتة ممتازة لليهود.
هذه المباغتة في المكان والزمان حالت دون تعاون اليهود مع حلفائهم وضمنت النصر للمسلمين عليهم ، بالرغم من استقتالهم ورصانة حصونهم وتيسر قضاياهم الإدارية بشكل ممتاز للغاية .
ب – قتال المدن والأحراش
خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستيلاء على حصون اليهود المنيعة ، كانت تتلخص بمشاغلة بعضها بقوات صغيرة ، وتركيز الهجوم على حصن واحد بقواته الرئيسية، حتى يتم له الاستيلاء على الحصن، ثم ينتقل بهجومه المركز إلى حصن آخر .
كما أنه قسم قواته إلى أقسام بالنسبة إلى قبائلها وبطونها، وجعل لكل قسم قائداً، حتى يشتد التنافس بين القوات، ولكي يقوم بعضها بالمشاغلة بينما يأخذ الباقي قسطه من الراحة ليستأنف القتال مرتاحاً عند الحاجة إن هذه الخطة تتفق مع أحدث الخطط العسكرية الحديثة في قتال المدن والأحراش . ولو أنه قام بالقتال بأسلوب الكر والفر، أو بأسلوب الصفوف في مثل هذا الموقف، لما كتب للمسلمين النصر على اليهود .
ج. الانسحاب
يعتبر نجاح خالد بن الوليد في انسحابه من مؤتة تجاه قوات متفوقة على قوته تفوقاً ساحقاً ، يعتبر هذا الانسحاب معجزة عسكرية .
كما ان أسلوب اشتغال مؤخرة قوات المسلمين كان رائعاً حقاً: احتلت جبهة واسعة لتجبر العدو على الانفتاح على جبهة واسعة أيضاً، مما يضعف قواته وأثارت تلك المؤخرة ضجة عظيمة، مما جعل العدو يعتقد بوجود قوات كبيرة للمسلمين.
كل ذلك خلص قوة القسم الأكبر للمسلمين من التطويق، وسهل عليها عملية الانسحاب .
2- المعنويات
أثرت عمرة القضاء في هذه الفترة على معنويات قريش تأثيراً كبيراً. وقف كثير من قريش عند دار الندوة بمكة، كما عسكر آخرون فوق الهضاب المحيطة بها ليشاهدوا دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال : ورحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ثم استلم الركن وأخذ يهرول ويهرول أصحابه معه حتى واراه البيت عن قريش .
والتطواف بهذه السرعة إظهار لقوة المسلمين وتكذيب لإشاعات الضعف التي زعمتها قريش للناس.
ونحر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الهدى عند المروة، ثم بقي بمكة ثلاثة أيام وعاد بعدها الى المدينة ، وهو لا يشك بتأثير ما رأته قريش من قوة المسلمين ومن ضبطهم وإطاعتهم للرسول ومن تعظيمهم للبيت على معنويات قريش، فلم يكد يترك مكة حتى وقف خالد بن الوليد يقول في جمع من قريش: ” لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر، وإن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذي لب أن يتبعه”.
وسمع أبو سفيان بما كان من قول خالد بن الوليد، فبعث في طلبه وسأله عن صحة ما سمع، فأكد له خالد صحته، فاندفع أبو سفيان إلى خالد في غضبه، فحجز سمع عنه عكرمة وكان حاضراً ! وقال: مهلا يا أبا سفيان فو الله خفت الذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه، أنتم تقتلون خالداً على رأي راه وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم .
وأسلم من بعد خالد عمرو بن العاص وحارس الكعبة نفسها عثمان بن طلحة. بل ظهر الإسلام في كل بيت من قريش سراً وعلانية .
إن عمرة الحديبية فتحت أبواب قلوب أهل مكة قبل أن يفتح المسلمون أبواب مكة نفسها بعد حين .
3- الأمانة
أ- حرص المسلمون على الوفاء بعهودهم كل الحرص، ولم يحاولوا بتاتاً أن ينتهزوا الفرص السانحة للقضاء على خصومهم حرصاً على الوفاء بتلك العهود .
كان بإمكان المسلمين احتلال مكة في عمرة القضاء والبقاء فيها، وفعلا أراد عبد الله بن رواحة أن يقذف في وجه قريش بصيحة الحرب، فصده عمر وصده الرسول صلى الله عليه وسلم .
ب – كان المسلمون في غزوة خيبر يعانون أشد العناء من نقص في مواد إعاشتهم حتى جاءت جماعة من المسلمين الى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون اليه قلة مؤونتهم، ويطلبون اليه إعطاءهم ما يسدون به رمقهم، فلم يجد شيئاً يعطيهم إياه، وأذن لهم بأكل لحوم الخيل على ندرتها وقيمتها العسكرية الكبيرة حين ذاك.
في هذا الموقف العصيب أقبل عبد حبشي بغنمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم ، ثم قال: ” يا نبي الله: إن هذه الغنم عندي أمانة، وكانت هذه الغنم تعود الى يهودي من خيبر . قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “اخرجها من عندك وارمها بالحصباء، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك “
فعل العبد ما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم، فرجعت الغنم إلى صاحبها، فعلم اليهودي أن غلامه أسلم . إن مثل هذه الـمانة في مثل هذا الموقف تدعو إلى الإعجاب والتقدير .
4- إكمال التحشد
أ- الهدف
تحشيد أكبر قوة ممكنة من المسلمين للقيام بالعمل الحاسم: فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية، لتكون القاعدة الأمينة لحركات المسلمين المقبلة ، لنشر الإسلام بين الناس كافة، وتأسيس الإمبراطورية الإسلامية.
ب – عودة مهاجري الحبشة
التجأ بعض المسلمين إلى الحبشة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فراراً من أذى قريش، وبقوا هناك بضعة عشر عاماً، حتى أصبح سلطان المسلمين قويا، ولم يبق هناك مبرر من بقائهم في الحبشة بعيدين عن إخوانهم المسلمين الذين يحتاجون لمعاونتهم في نشر الدعوة وتوطيد دعائم الإسلام .
وفعلا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يطلب اليه إعادة مهاجري الحبشة، فعادوا إلى المدينة بعد فتح خيبر مباشرة، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقدوم هؤلاء المهاجرين، واندمجوا بقوات المسلمين ليقوموا بواجبهم في الجهاد .
5- نشر الإسلام
دعوة الملوك والامراء والرؤساء للإسلام .
راجع الملحقين المرفقين حول دعوة الملوك والأمراء والرؤساء المسيطرين على البلاد العربية حين ذاك، من النصارى الذين كانوا يدينون بدين الرومان، ومن المجوس الذين كانوا يدينون بدين الفرس
لقد أتاحت مكاتبات الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الفرصة لانتشار الإسلام خاصة في منطقة البحرين وفي اليمن، كما أتاحت الفرصة لعدد عظيم من الناس أن يعرفوا أهداف الدين الجديد وغاياته. مما جعل قلوب كثيرين منهم تهوي إليه سواء تظاهروا بذلك أم أبقوه في طي الكتمان.
إن انتشار الإسلام في اليمن له أهمية خاصة من الناحية العسكرية، فقد جعل قريشاً مطوقة بالمسلمين من الشمال والجنوب .
وبذلك تقرر مصير مكة وقريش نهائياً.
6 – القضايا الإدارية
أ- الإعاشة
كانت مواد الإعاشة قليلة جداً عند المسلمين في غزوة خيبر، فجاع بعضهم ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً عنده ليسد به رمقهم، ولكن تداعي حصون خيبر التي تكدست فيها الأرزاق واستسلامها للمسلمين، حسن موقف الإعاشة عند المسلمين. أما اليهود فقد كان موقف إعاشتهم ممتازاً .
ب – الماء
استفاد اليهود من الآبار وبعض العيون في غزوة خيبر لتموينهم بالماء، وعندما علم المسلمون بذلك، سيطروا على المياه خارج الحصون وحرموا الحصون منها مما سهل عليهم استسلام الحصون.
ج – الصحة
كان جو خيبر وخماً وفي المنطقة كثير من المستنقعات، فأدى ذلك إلى إصابة المسلمين بالحميات. وقد أفاد اليهود من النساء في غزوة خيبر لتمريض الجرحى والمرضى .
د – المجندات
أفاد المسلمون من النساء المتطوعات في غزوة خيبر لمناولة المقاتلين السهام وسقي السويق وتضميد الجرحى والمرضى وتمريضهم .
5- الغنائم
قسمت الغنائم بالتساوي بين المقاتلين وقد كانوا ممن حضر صلح الحديبية وبيعة الرضوان، كما أشرك الرسول صلى الله عليه وسلم في الغنائم مهاجري الحبشة العائدين تواً، لأن حالتهم الاقتصادية كانت رديئة للغاية، ولا بد من مكافأتهم لإخلاصهم وعنــائهم بهجرتهم إلى الحبشة وبقائهم هناك بضعة عشر عاماً.
وأسهم للنساء المتطوعات من مواد الإعاشة فقط كما أسهم للرجال .
7- النتائج
كانت نتائج فترة هدنة الحديبية ما يلي:
أـ القضاء الأخير على اليهود في شبه الجزيرة العربية .
ب ـ السيطرة على القبائل العربية .
ج- التأثير على معنويات قريش وحلفائها ما سهل فتح مكة-
د – انتشار الإسلام انتشاراً عظيماً داخل الجزيرة العربية .
كل ذلك جعل المسلمين يعيدون تنظيم صفوفهم على أسس مكينة، وينجزون تحشيد قواتهم بحيث أصبحت أكبر قوة في شبه الجزيرة العربية كلها.