فتح مكة

﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾
[ القصص: 5]

فتح مكة

الموقف العام

1 – المسلمون

أتاحت هدنة الحُديبية للمسلمين القضاء على اليهود عسكريًّا في المدينة، كما أتاحت لهم السيطرة على القبائل شمال المدينة حتى حدود العراق والشام، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلّها. فأصبح المسلمون قوّة لا تدانيها أيّة قوّة في بلاد العرب.

ولم يبق أمام المسلمين إلا الاستيلاء على مكة تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضا، وما أسهل احتلالها على المسلمين لولا عهد الحديبية الذي يحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.

2 – المشركون

أدّى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل، ومن ضمنها قريش، وبقاء القسم الآخر على الشرك، إلى تفرّق كلمتها واستحالة جمع هذه الكلمة على حرب المسلمين.

لم يبق في قريش زعيم مسيطِر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلّا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرّفٍ يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدلٍ يعتبر الحرب كارثةً تُحيق بقريش.

أراد بنو بكر، حلفاء قريش، أن يأخذوا قريش بثاراتهم القديمة من بني خُزاعة، حلفاء المسلمين، وحرّضهم على ذلك متطرّفو قريش بقيادة عِكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش،

وأمدّوهم سرًّا بالرجال والسلاح، وقامت بنو بكر بهجومٍ مباغتٍ على بني خُزاعة، فأوقعوا فيهم بعض الخسائر في الأرواح والأموال. ولمّا التجأت خُزاعة إلى البيت الحرام، طاردتهم بنو بكر مُصمّمةً على القضاء عليهم غير مكترثةٍ بعهد الحُديبية.

وانتهت الهُدنة بين قريش وحلفائها من جهة، وبين المسلمين وحلفائهم من جهةٍ أُخرى، وكان السبب في انتهائها قريش وبنو بكر.

إعلان الحرب

1 – المسلمون

سارع عمرو بن سالم الخُزاعي بالتوجّه إلى المدينة حاملًا أخبار نقض قريش وبني بكر لعهد الحُديبية، فلمّا وصلها قصد المسجد وقصّ على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصاب خُزاعة من بني بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم :

“نُصِرتَ يا عمرو بن سالم”.

وخرج بديل بن ورقاء في نفرٍ من خُزاعة، حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبيّ بما أصابهم، فعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.

2- قريش

قدّر معتدلو قريش وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بينهم وبين المسلمين، فقرّروا إيفاد أبي سفيان إلى المدينة للتشبّث بتثبيت العهد وإطالة مدّته.

ولمّا وصل أبو سفيان (عُسفان) في طريقه إلى المدينة، رأى بديل بن ورقاء وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكون قد جاء محمدا صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث، ممّا يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيدا، إلا أن بديلان فى مقابلته لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن أبا سفيان عرف من فضلات راحلة بديل التي فيها نوى التمر أنه كان في المدينة.

ووصل أبو سفيان إلى يثرب، فقصد دار ابنته أم حبيبة، زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه. فقال لها: «يا بُنيّة، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عنّي؟»

قالت: «بل هو فراشُ رسول الله، وأنت مشركٌ نجس.»

فقال أبو سفيان: «والله، لقد أصابكِ بعدي شرّ.»

واستشفع أبو سفيان بأبي بكر ليُكلّم الرسول صلى الله عليه وسلم فأبى. واستشفع بعمر بن الخطّاب، فأغلظ له في الرّد، وقال: «أأنا أشفع لكم عند رسول الله؟! والله، لو لم أجد إلّا الذّرّ لجاهدتكم به.»

ودخل أبو سفيان على عليّ بن أبي طالب، وعنده فاطمة، فردّ عليه عليّ: «والله، يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نُكلّمه فيه.»

واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبيّ أن يُجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: «ما يُجير أحدٌ على رسول الله.»

فاستنصح أبو سفيان عليًّا، بعد أن اشتدّت عليه الأمور، فنصحه أن يعود من حيث جاء؛ ففعل أبو سفيان، عائدًا إلى قريش ليُخبرهم بما لقي من صدود.

ولم يبقَ هناك شكٌّ في إعلان الحرب.

الاستحضارات

أمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابه بإنجاز استحضاراتهم للحركة، وأرسل من يُخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استحضاراتهم للحركة أيضًا. كما أمر أهله أن يُجهّزوه، ولكنّه لم يُخبر أحدًا بنواياه الحقيقية ولا باتّجاه حركته.

دخل أبو بكر على ابنته عائشة، زوج النبيّ، وهي تُهيّئ جهاز الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال لها: «أي بُنيّة، أأمركم رسول الله ﷺ أن تُجهّزوه؟»
قالت: «نعم.» فتجهّز.
قال: «فأين ترينه يريد؟»
قالت: «والله، لا أدري.»

ولمّا اقترب موعد الحركة، صرّح الرسول ﷺ بأنّه سائرٌ إلى مكة، وبثّ عيونه ليحول دون وصول أنباء حركته إلى قريش. ولكنّ حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالةً أعطاها لامرأةٍ مُتوجّهة إلى مكة، يُخبرهم فيها بنيّات المسلمين. فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث عليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام ليدركا المرأة ويأخذا تلك الرسالة منها. فأدركاها وأخذا الرسالة التي كانت معها.

ودعا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم حاطبًا يسأله: ما حمله على ذلك؟

قال حاطب: «يا رسول الله، أما والله إنّي لمؤمنٌ بالله ورسوله، ما غيّرتُ ولا بدّلتُ، ولكنّي كنتُ امرءا ليس له في القوم من أهلٍ ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولدٌ وأهل؛ فصانعتهم عليهم.»

قال عمر: «دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه، فإنّ الرّجل قد نافق.»

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «أمّا إنّه قد صدقكم، وما يدريك؟ لعلّ الله قد اطّلع على من شهد بدرًا فقال:
اعملوا ما شئتم…»

شفع لحاطبٍ ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.
وأنجز المسلمون استحضاراتهم للحركة.

قوّات الطرفين

المسلمون:
عشرة آلاف مقاتل بقيادة الرسول ﷺ .

المشركون:
قريش وبنو بكر، كلّ جماعةٍ منهم لها قائدٌ خاصّ.

في الطريق إلى مكة


1 – ترك المسلمون المدينة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، قاصدين فتح مكة،

وكان جيش المسلمين مؤلفا من الأنصار والمهاجرين، وقبائل سُليم، ومُزينة، وغطفان، وكثيرٍ من القبائل الأخرى، في عددٍ وعُدّةٍ لم تعرفه الجزيرة العربيّة من قبل. وكلّما تقدّم الجيش باتّجاه هدفه، ازداد عددُه بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه.

ومع كثافة هذا الجيش وقوّته وأهميّته، فقد بقي سرّ حركته مكتومًا، لا تعرف قريش عنه شيئًا. ومع اعتقاد قريش بأنّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم في حِلٍّ من مهاجمتها، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المُتوقّع.

ولشعور قريش بالخطر المُحدق بها، أسرع كثيرٌ من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم. فصادف بعضُ هؤلاء، ومنهم العبّاس عمّ النبيّ، جيش المسلمين في طريقه إلى مكة.

وصل الجيش مساءً إلى موضع (مرّ الظهران) على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر هناك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُوقد كلّ مسلمٍ نارًا حتى ترى قريش ضخامة الجيش دون أن تعرف هويّته، فيُؤثّر ذلك على معنويّاتها وتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يُؤمِّن الرسول صلى الله عليه وسلم هدفه في دخول مكة دون إراقة الدماء.

وأوقد عشرة آلاف مسلمٍ نيرانهم، فرأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام بالخروج باتّجاه النيران حتى يعرفوا مصدرها ونوايا أصحابها وأهدافهم.

فلمّا اقتربوا من موضع معسكر المسلمين، قال أبو سفيان لصاحبه:
«ما رأيتُ كاللّيلة نيرانًا قطّ ولا عسكرًا!»
فردّ عليه بديل بن ورقاء:
«هذه والله خُزاعة حمشتْها الحرب.»

فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال:
«خُزاعة أقلّ وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.»

وكان العباس عمّ النبيّ ﷺ قد خرج من معسكر المسلمين راكبًا بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليُخبر قريشًا بالجيش الضخم الذي جاء لقتالها، والذي لا قِبَلَ لها به، حتى يُؤثّر على معنويّاتها ويضطرّها إلى التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها، ويُؤمِّن لها صُلحًا شريفًا، ويُخلّصها من معركةٍ فاشلةٍ معروفة النتائج سلفًا، لا يمكن أن يُثيرها غير العصبيّة الجاهليّة.

فسمع وهو في طريقه، حديث أبي سفيان وبديل بن ورقاء،

عرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش مكة صباح غدٍ، فيحيق به وبقومه العقاب.

أردف العباس أبا سفيان على بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتوجها نحو معسكر المسلمين. فلما وصل العباس المعسكر ودخله، وأخذ يمر بنيران الجيش في طريقه إلى خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، رآه المسلمون فلم ينكروا شيئاً لأنهم عرفوا العباس. فلما مرّ العباس بنار عمر بن الخطاب، عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي وطلب منه أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من عمه أن يأخذ أبا سفيان إلى خيمته ويحضره إليه صباح غدٍ.

فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي، أسلم ليحقن دمه. فقال العباس: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً.»

قال الرسول: ﷺ «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.»

وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب، بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرةٍ للمقاومة.

قال العباس: «خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله ﷺ ومرت القبائل على راياتها. كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سُليم! فيقول: ما لي ولسُليم. ثم تمر به القبيلة، فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مُزينة. فيقول: ما لي والمُزينة. حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: ما لي ولبني فلان.

حتى مر الرسول صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق من الحديد. فقال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قلت:

هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار. قال: (ما لأحدٍ بهؤلاء من قبلُ ولا طاقة! واللهِ يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلكُ ابنِ أخيكَ الغداةَ عظيماً).

قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن.

قبل دخول مكة

دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحسّ أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها قضاءً لا تقوم لها قائمة بعده أبداً. ورأى أهل مكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية. فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق بينهم مُجلجِلاً جازماً:

“يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن!”

شُدهت امرأة أبي سفيان، هند بنت عتبة، التي كانت تُشايع المتطرفين من قريش في عداوتهم للمسلمين، وهي تسمع من زوجها هذا الكلام. فوثبت إليه وأخذت بشاربه تلويه، وصاحت: “اقتُلوا الحَميتَ الدَّسِمَ الأحمس! (أي هذا الزِّق المنتفخ)، قُبِّحت من طليعة قوم!”

ولم يَكترث أبو سفيان لسباب امرأته، فعاود تحذيرهم: «ويلكم! لا تغرّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن!»

قالت قريش: «قاتلك الله! وما تُغني عنّا دارك؟»

قال: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.»

وأصبحت مكة تنتظر دخول المسلمين؛ اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقي المتطرفون مصرّين على القتال.

خطة الفتح

1- كانت مجمل خطة الرسول صلى الله عليه وسلم لدخول مكة كما يلي:

أ- الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، وواجبها دخول مكة من شمالها.
ب- الميمنة بقيادة خالد بن الوليد، وواجبها دخول مكة من جنوبها.
ج- قوات الأنصار بقيادة سعد بن أبي عبادة، وواجبها دخول مكة من الغرب.
د- قوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، واجبها دخول مكة من الشمال الغربي، من اتجاه جبل هند.
ه- مثابة اجتماع القوات بعد الفتح في منطقة جبل هند.

2- كانت أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم لقواده بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا إلى القتال، حتى يتم فتح مكة سلمياً وبدون قتال.

الفتح

1- قبل شروع القُطعات في دخول مكة، سمع بعض المسلمين سعد بن أبي عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة، تُستحلّ الحُرمة.» لذلك، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، حين بلغه ما قال سعد، أن يأخذ الراية منه ويدفعها إلى ابنه قيس، فقد كان قيس أهدأ أعصاباً من أبيه وأكثر سيطرةً على نفسه، حتى يحول دون اندفاع سعد لإثارة الحرب.

دخلت قوات المسلمين مكة، فلم تَلقَ مقاومةً إلا جيش خالد بن الوليد،

فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة (الخندمة)، فلما وصلتها قُطعات خالد، أمطروها بوابلٍ من نبالهم. لكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم، ولم يُقتل من رجاله إلا اثنان ضلّا طريقهما وانفصلا عنه. ولم يلبث صفوان وسهيل وعكرمة، حين رأوا الدائرة تدور عليهم، أن تركوا مواضعهم في (الخندمة) وفرّوا مع قواتهم.

واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين.

في مكة

عسكر النبي ﷺ في منطقة جبل هند بعد أن سيطرت قواته على جميع مداخل مكة. فلما استراح وتجمعت أرتاله، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد. فأقبل إلى الحَجَر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت.

وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول:
“جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. جاء الحق وما يُبدئ الباطل وما يُعيد.”

ثم دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام. فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى، ودار في البيت يُكبّر.

ولما أنهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة وقريش تنتظر ماذا يصنع، فقال:

“لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدميّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.

يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب. يا أيها الناس، (إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير). يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟”

قالوا:
“خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم.”

قال: “فإنّي أقول كما قال يوسف لإخوانه: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء.”

طهّر المسلمون البيت من الأصنام، وأتمّ محمد صلى الله عليه وسلم بذلك، في أول يومٍ من فتح مكة، ما دعا إليه منذ عشرين سنة؛ أتمّ تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهدٍ من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي عاجزةٌ لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.

وأقام محمد صلى الله عليه وسلم في مكة خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض المفارز للدعوة إلى الإسلام ولتحطيم الأصنام من غير سفكٍ للدماء. وقد أتمّت تلك المفارز واجباتها دون قتال، إلا المفرزة التي كانت بإمرة خالد بن الوليد والتي خرجت إلى نَخلة لتهدم العُزّى.

فلما هدمها خالد، خرج إلى جذيمة، فأخذوا سلاحهم. فطلب إليهم خالد أن يضعوا سلاحهم لأن الناس قد أسلموا. عند ذاك تردّد القوم بين من محبذ للقتال ومحبذ للسلم، وأخيراً ألقوا سلاحهم. فقتل منهم خالد بعض الناس.

فلما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رفع يديه إلى السماء وقال:

“اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.”

ثم بعث عليّا بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له:

“اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.”

وخرج علي ومعه مال ، فلما بلغ القوم دفع الدية عن الدماء وعما أصيب من
الأموال ، حتى اذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وأداه، أعطاهم بقية المال الذي
بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم احتياطاً لرسول الله مما لا يعلم.

خسائر الطرفين

1- المسلمون
شهیدان فقط

2 – المشركون
ثلاثة عشر قتيلا وبعض الجرحى

دروس من الفتح

1- المباغتة

حرص محمد صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على ألا يكشف نيته لأحد عندما اعتزم الحركة الى مكة ، وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.

لم يبح بنياته لأقرب أصحابه إلى نفسه ابي بكر ، بل لم يبح بنياته إلى أحب نسائه اليه عائشة بنت أبي بكر. وبقيت نواياه سراً مكتومــاً حتى أنجز هو وأصحابه جميع استحضارات الحركة، وحتى وصل امره الإنذاري الى كافة المسلمين خارج المدينة وداخلها لانجاز الاستحضارات. ولكنه اباح بنواياه في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة حيث لم يبق هناك مبرر للكتمان، لان الحركة أصبحت وشيكة الوقوع .

ومع ذلك فانه بث عيونه وأرصاده ودورياته لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش .

بت عيونه داخل المدينة ليقضي على كل خبر من أهلها إلى قريش ، وقـــــد رأيت كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته الى مكة، فاستطاع أن يحجز على تلك الرسالة قبل أن تصل الى مثابتها.

وبت دورياته في المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات
عن نوايا المسلمين ، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات اليها .

وبقي النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة ، حتى وصل ضواحي مكة ، ونجح بترتيبات في حرمان قريش من معرفة تدابير المسلمين .

ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر لاستطاعت أن تحشد
حلفاءها وتنظم قواتها وتقرر خطة مناسبة لمقابلة المسلمين ، ولاستطاعت مقاومة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أطول مدة ممكنة ، ولأوقعت بقواته خسائر في الأرواح والأموال دون مبرر .

ليس من السهل أبداً ، أن يتحرك جيش كبير تبلغ قوته عشرة آلاف راكب وراجل الى مكة ، دون ان تعرف قريش وقت حركته ونواياه ، حتى يصل ذلك الجيش إلى ضواحي مكة ، فيفلت الأمر من قريش ، ولا تعرف ما تصنع الا أن تلجأ إلى التسليم .

إن ترتيبات الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمان قريش من معرفة نواياه ، أمنت له مباغتة ممتازة للغاية ، وأجبرت قريشاً على الاستسلام دون قتال.

2- المعلومات

يقرر القائد خطته بالنسبة الى المعلومات التي يستطيع الحصول عليها عن :
نوايا العدو ، وعدد قواته ، وتنظيمه وتسليحه ومواضعه وأسلوب قتاله
وكلما كانت المعلومات المتيسرة مفصلة وافية . كانت خطة القائد دقيقة
وكان احتمال نجاحها كبيراً.
لقد استطاع المسلمون أن يعرفوا من وفد بني خزاعة أمر نقض الهدنة،
واستطاعوا معرفة تردد قريش في قراراتها ، كما استطاعوا أن يعرفوا كل خبر
مهم يدخل الى المدينة أو يخرج منها في وقته الجازم.

فلم تستطع ان تحصل على أي نوع من المعلومات في أي وقت كان قبل حركة الرسول صلى الله عليه وسلم وأثناءها حتى وصوله ضواحي مكة حاول أبو سفيان أن يعرف نبات المسلمين من ابنته أم حبيبة زوج النبي فلم يفلح ، وحاول ان يعرف ذلك من المسلمين في المدينة ففشل ، وحاول أن يعرف من وفد خزاعة ، فانكر الوفد ذهابه الى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وهكذا بقيت قريش في عماية من أمرها ، حتى وصل جيش المسلمين ضواحي مكة ونزل القضاء المحتوم .

3- بعد النظر

القائد الناجح هو الذي يتسم ببعد النظر بالاضافة الى مزاياه أخرى لها بالمقاومة وقد أدخل واتخذ لكل احتمال التدابير الضرورية لمعالجته ، دون أن يترك مصائر قواته للأقدار .

إن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء ، هذا أمر مفروغ منه ، ولكن الله يكتب النصر لمن أعد له عدته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه ولذلك يشدد العسكريون لإدخال اسوا الاحتمالات في حسابهم عند الاقدام على أي حركة عسكرية .

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل الى مكة ، حتى تمر بــه جنود المسلمين ، فيحدث قومه عما رآه عن بينة ويقين، ولكي لا يكون إسراعه
في العودة الى قريش قبل أن تتحطم معنوياته تماما ، سبباً لاحتمال وقوع اي مقاومة من قريش مهما يكن نوعها ودرجة خطورتها .

وفعلا اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل
لها بالمقاومة وقد أدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في حسابه أسوأ الاحتمالات أيضاً ، عند تنظيم خطته
لدخول مكة ، فقد كانت تلك الخطة تؤمن تطريق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة ، وبذلك تستطيع القضاء على أي مقاومة في أي جهة من مكة ، كما تؤمن توزيع قوات قريش الى أقسام المقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.

لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه التدابير الفعّالة، على الرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً ، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر بها مهما تكن الظروف والأحوال ان هذا العمل من أروع أمثلة بعد النظر الذي يجب أن يتسم به القائد العبقري .

4- التنظيم

كان جيش الفتح يتألف من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة يومذاك : سبعمائة من بني سليم، والف من مزينة، وأربعمائة من بني غفار ، واربعمائة والف من بني جهينة ، وعدد من تميم واسد وقيس وغيرها من القبائل الأخرى.

ان هذا التنظيم جعل المشركين يترددون في مقاومة جيش المسلمين ، لان كل قبيلة لها فيه عدد كبير بل ان كثيراً من القبائل تعتبر نجاح هذا الجيش نجاحاً لها على الرغم من اختلاف العقيدتين ، والأكثر من ذلك ، فان انتصار هذا الجيش لا يعتبر فخراً لقبيلة دون أخرى ، كما ان فشل اي قبيلة في التغلب عليه، لا يعتبر عاراً عليها، لان هذا الجيش لم يكن لقبيلة دون أخرى ، بل لم يكن للعرب دون غيرهم، بل كان للإسلام ولمعتنقي هذا الدين من العرب وغير العرب. إني أعتقد ان تنظيم هذا الجيش بهذا الأسلوب الذي لا يخضع إلا للعقيدة
الموحدة فقط دون غيرها من المؤثرات ، جعل القبائل كلها لا تحرص على مقاومته حرصها على مقاومة قبيلة خاصة او قبائل خاصة ، وجعل اكثر تلك القبائل لا تريد فشله اذا لم تكن تريد النصر له ، وهذا ادى الى تردد القبائل في مقاومته و امتناعها عن نقل المعلومات عنه الى قريش او غيرها، كما اعتقد ان قوة هذا الجيش وحدها لم تكن المانع الوحيد لتردّد القبائل في قتاله ونقل معلوماته للعدو ، لأن قتاله أو نقل المعلومات عنه لعدوه ، معناه إيقاع الخسائر في المسلمين : تلك الخسائر التي تكون على القبائل كلها لا على قبيلة واحدة ، وبذلك يشمل الضرر القبائل كلها لا المسلمين وحدهم ، ومن يضمن ألا تكون اكثر الخسائر من منتسبي تلك القبيلة التي سببت للمسلمين هذه الخسائر .

5- المعنويات

لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة ، البلد المقدس عند المسلمين الذي بتوجهون اليه في صلاتهم كل يوم، و يحجون بيته كل عام . وقد كانت أهمية مكة للمهاجرين اكثر من أنها بلد مقدس ، فهي بلدهم الذي تركوه فراراً بدينهم وتركوا فيه أموالهم واقرباءهم وكل عزيز عليهم .

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار الصعبة . اما معنويات قريش فقد كانت متردية للغاية ومن حقها أن تتردى، فقد أثرت عليها عمرة القضاء كما رأيت ، كما اثر عليها انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً ، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح ا القتال . كان حماس بن قيس من بكر يعد سلاحه قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم . فسألته امرأته المشركة : « لماذا تعد ما أرى ؟ ، قال : ولمحمد وأصحابه ) . قالت ( والله ما يقوم لمحمد شيء إذا كان هذا حال معنويات المشركين في مكة فكيف تستطيع المقاومة وكيف لا تتردد في الإقدام على القتال ؟ إني اعتبر أن فتح مكة قد تم للمسلمين من يوم عمرة القضاء ، لأن هذه العمرة أثرت على معنويات قريش أعظم التأثير. إن عمرة القضاء فتحت قلوب قريش ، وغزوة الفتح فتحت أبوابها . ومما زاد في انحطاط معنويات قريش وسل” كل روح للمقاومة فيها ، ما اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من ترتيبات إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح ، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش او اكبر قائد فيها ؛ ودخول أرتال المسلمين من كل جوانب مكة .

لقد كانت معركة (الفتح) معركة معنويات لا معركة ميدان

6- السلم

حرص الرسول صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة حتى فتح مكة على نياته السلمية ليؤ الف بذلك قلوب المشركين ، ويجعلها تقبل على الإسلام . إيقاد النيران في ليلة الفتح بشكل لم تعرف له العرب مثيلا من قبل، يستهدف القضاء على روح المقاومة في قريش ، ويجبرها على التسليم دون قتال . ومرور الجيش بأبي سفيان ، يستهدف إقناعه بعدم جدوى المقاومة، ليعمل من جانبه على إقناع قريش بهذا الرأي :

و من دخل دار أبي سفيان او أغلق عليه بابه او التجأ الى البيت الحرام فهو آمن ، معناه منع تجمع الناس المقاومة .
بل ان دخول أرتال المسلمين من كل جانب من جوانب مكة ، لا يعني إلا
اقناع المسلمين باستحالة المقاومة .
كل ذلك كان يستهدف السلم وحقن الدماء بقي الرسول صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح ايضاً ؛ فقد اصدر العفو العام عن قريش وقال لهم : ( إذهبوا فأنتم الطلقاء »
وكما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على السلم الإجماعي حرص على السلم للأفراد، فمنع القتل حتى لفرد من المشركين .
قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلا من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لهــــا عنده ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الغضب ، وقام في الناس خطيباً ، ومما قاله : « يا معشر خزاعة ! ارفعو أيديكم عن القتل فقد كثر عن القتل فقد كثر إن نفع ، لقد قتلتم قتيلا لأدينه ، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين : إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله ( اي ديته ).
ثم ودى بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة .

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلا من المشركين اراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت ، بل تلطف معه ، فقد اقترب منه فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله ، فنظر اليه النبي نظرة عرف به طويته ، فاستدعاه وسأله : « ماذا كنت تحدث به نفسك ? ) قال : لا شيء ! كنت اذكر الله » . فضحك النبي وتلطف معه ووضع يده على صدره ، فانصرف الرجل وهو يقول : « ما رفع يده عن صدري ، حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه ) . لقد كان الرسول يستهدف من حرصه على السلم تأليف القلوب وتوحيد كلمتها لتقبل على الإسلام ، فلم يكن من السهل على قريش أن تقبل بمصيرها الذي آلت اليه وهي سيدة العرب غير منازع ، لأنها أعظمهم حضارة وأشدهم باساً واكثرهم مالاً وفي بلدها البيت الحرام .

ليس من السهل أن ترضى قريش بمصيرها هذا وتقبل على الإسلام طائعة وتحمل رايات الجهاد ، لو لم تعامل هذه المعاملة السلمية التي لم تكن تتوقعها ، وبذلك انقلب موقفها من اشد الناس عداوة للإسلام الى احرص الناس على رفع راية الإسلام .

زد على ذلك ان (السلام) في الإسلام دين ، امر الله به في محكم كتابه : (وان جنحوا للسلم فاجنح لها …)

7- الوفاء

التاريخ العسكري طافح بأعمال الظلم والانتقام التي قام بها المنتصرون ، ويندر أن نجد في التاريخ كله وفاء يشابه وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل لا نجد مثيلا في التاريخ كله لهذا الوفاء .

رأى الانصار دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلده الحبيب بعد فراق طال أمده، وشاهدوا التفاف قوته واهله حوله ، فقال بعضهم لبعض : أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ فتح الله عليه ارضه وبلده ، يقيم بها ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم ما لبث ان سألهم : ما قالوا ؟ فلما أباحوا له بما يخالج نفوسهم بعد تردد ، قال : « معاذ الله . المحيا محياكم والممات مماتكم ، وقد كان من حقه أن يستقر بمكة وفيها اهله وقومه ، وفيها بيت الله الحرام ، ولكن وفاءه أبي عليه ان ينسى اصدقاء الشدة في وقت الرخاء . رأى علي بن ابي طالب مفتاح الكعبة بيد الرسول، فقال له : « يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « این عثمان بن طلحة ? ، فلما جاء عثمان قال له : « يا ابن طلحة ، هاك مفتاحك ، اليوم يوم بر ووفاء،
اما وفاؤه بعهوده وحرصه الشديد على التمسك بها ، فحديث معاد .
تلك امثلة من وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال اعداؤه عنه قبل اصدقائه : « انه أوصل الناس واحلمهم واكرمهم وأوفاهم . .

8- التواضع

السيطرة على الأعصاب في حالتي النصر والفشل من أصعب الامور التي يجب
أن تتوفر في القائد الممتاز.
وربما تكون السيطرة على الأعصاب في حالة الهزيمة أسهل من السيطرة عليها في حالة النصر ، فكم غير النصر من اخلاق القادة وجعلها تنقلب من حــــــال الى حال .

ولكن نصر المسلمين يوم الفتح جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يتواضع الله ، حتى رآه المسلمون ذاك ورأسه قد انحنى على رحله ، وبدا عليه التواضع الجم ، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً . وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً وشكراً لله . ان قيمة هذا التواضع في موقف يعد اكبر نصر للمسلمين ، تتضاعف قيمته في النفس اذا قارناه بمواقف العظمة والجبروت التي أبداها مختلف القادة في مختلف الظروف ، عندما حازوا على نصر أقل قيمة من فتح مكة بكثير.

إن تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم درس عملي لكل قائد منتصر ، وما اصعب الظهور بهذا المظهر ساعة النصر !

9-العقيدة

رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن والدها أبي سفيان ، وقد جاءها من سفر قاصد بعد غياب طويل ؛ ذلك لأنها رغبت عن مشرك نجس ولو كان هذا المشرك أباها الغريب .
وعندما جاء ابو سفيان مع العباس عم النبي ليواجه الرسول صلى الله عليه وسلم ، رآه عمر بن الخطاب ، فترك خيمته واشتد نحو خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما وصلها قال : « يا رسول الله ، دعني أضرب عنقه ) .
قال العباس : ( يا رسول الله ، اني قد اجرته ، فلما أكثر عمر قال العباس : ه مهلا يا عمر ، ما تصنع هذا إلا أنه من بني عبد مناف ، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة » . قال عمر : ( مهلا يا عباس ، فوالله سلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم » .
هذا صحيح، فقد كان عمر يمثل عقيدة المسلمين الأولين الراسخة – بينما كان العباس حديث عهد بالاسلام .
وكيف تبرر إقدام المهاجرين على الاشتراك في غزوة الفتح ، تلك الغزوة التي لم يكن من المستبعد ان تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش قوم المهاجرين وأهلهم في بلدهم الحبيب.
ان عقيدة المسلمين لا تخضع للمصلحة الشخصية ، بل هي رهن المصلحة
العامة وحدها.

10- تحطيم الأصنام

تحطيم الاصنام في مكة يوم الفتح ، قضى على عقيدة الاشراك في أقوى معقل من معاقلها في البلاد العربية كلها .
ان تحطيم الأصنام ، وهي التي كان يعبدها المشركون ويقربون القرابين اليها دون ان تذود عن نفسها أو تصيب من حطمها بأذى كما كان يعتقد المشركون بها نزع من نفوسهم آخر اعتقاد في قدسية هذه الأصنام وفائدتها .

11- القضايا الإدارية

كان موقف اعاشة المسلمين في غزوة الفتح جيداً . فلم يشك منهم أحد من نقص الأرزاق قبل الفتح وبعده ، حتى عادوا الى المدينة . كما كان موقف النقلية جيداً أيضاً ، فقد كان لدى جيش المسلمين عدد كبير
من الإبل والخيل ، أفادوا منها في تنقلهم للركوب وحمل أمتعتهم . اما تسليحهم فكان ممتازاً ، ويكفي أن تسمع وصف الكتيبة الخضراء التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان افرادها لا يرى منهم الا الحدق من كثرة الحديد . لقد تأمنت كافة القضايا الإدارية للمسلمين في غزوة الفتح بشكل لم يسبق له مثيل في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة .

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة