﴿ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون ان كنتم مؤمنين﴾.
القرآن الكريم
الموقف العام
1 – المسلمون
سيطر المسلمون على الطرق التجارية المؤدية إلى الشام وألى العراق سيطرة تامة، ومنعوا قوافل قريش من سلوك هاتين الطريقين، فلم يبق أمام قريش إلا التجارة مع الحبشة وهي تجارة غير رابحة بالنسبة إلى التجارة مع الشام، وبذلك حلت بتجارة قريش – التي تعتمد عليها في حياتها كل الاعتماد نكبة قاضية .
كما سيطر المسلمون على المدينة وجعلوا منها قاعدة أمينة لدعوتهم وحركاتهم العسكرية المقبلة.
2- المشركون واليهود
أ) قریش
حرصت قريش منذ نكبتها الكبرى في ( بدر ) على الأخذ بثأرها من المسلمين، وصممت على الاستعداد عسكرياً لاستعادة كرامتها وشرفها.
ولم تغنها غزوة ( السويق) شيئاً بل زاد قرارها المشين أمام مطاردة المسلمين لها عاراً جديداً على عارها ببدر، كما أثارت سرية زيد بن حارثة كوامن حقدها على المسلمين .
وقرر كبراء قريش تخصيص ربح تجارة قافلة أبي سفيان التي جرت من أجلها معركة بدر، لإنجاز استحضارات معركة الثأر القادمة وادامتها بالمواد والسلاح
ب ) مشركو المدينة وما حولها
أصبح مشركو المدينة ضعفاء جداً لإسلام أكثرهم وتظاهر الآخرين منهم بالإسلام. كما هابت القبائل المجاورة قوة المسلمين فحالف أكثرهم المسلمين، وانكمش الآخرون في ديار هم خائفين .
ج ) اليهود
لم يبق داخل المدينة بعد طرد بني قينقاع أحد من اليهود، أما اليهود الذين يسكنون في ضواحي المدينة، فقد خافوا بطش المسلمين خاصة بعد جلاء بني قينقاع وقتل كعب بن الاشرف فتظاهروا بالمحافظة على عهودهم، ولو أنهم اخفوا نقض تلك العهود .
قوات الطرفين
1 – المسلمون
قوات المسلمين ستمائة وخمسون راجلاً وخمسون فارساً بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم .
2 – المشركون
قوات المشركين ألفان وتسعمائة من قريش ومواليها وأحابيشها ومائة من بني ثقيف، بينهم سبعمائة دارع فقط، ومع القوة مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير، وهذه القوات بقيادة أبي سفيان، وقد استصحب أكثر زعماء قريش نساءهم للتشجيع ورفع المنصوبات.
أهداف الطرفين
1 – المشركون
أخذ ثاراتهم من المسلمين في معركة بدر وسرية زيد بن حارثة، لاستعادة كرامتهم وشرفهم بين العرب .
2 – المسلمون
الدفاع عن المدينة وصد قريش عنها، لتتوفر لهم الحرية الكاملة لنشر الدعوة، إلى الاسلام بحرية وسلام .
قبل المعركة
1- المشركون
أ) بعد إنجاز قریش استحضاراتها للحركة، سلكت طريق مكة – المدينة . حتى وصلت موضعاً قريباً من المدينة يسمى ( الصمغة ) فأطلقت إبنها وخيلها ترعى زروع الأنصار هناك، وتابعت سيرها حتي بلغت العقيق، ثم نزلت عند بعض السفوح من جبل ( أحد ) على خمسة أميال من المدينة .
ب ) كان على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، و كان اللواء عند طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار .
ج ) نظم المشركون قوتهم للقتال بأسلول الصف وأمنوا حماية ميمنة الصفوف وميسرتها بالفرسان.
و ) وبذلت نساء قريش – خاصة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان أقصى جهودهن لتشجيع قريش وبعث الحماس في نفوسهم لأخذ ثاراتهم من المسلمين .
3 – المسلمون
أ) أرسل العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة مع أحد الرجال، يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقت خروج قريش لقتاله وعن عدد قواتها . فأسرع الرجل بالرسالة حتى قطع الطريق بين مكة والمدينة بثلاثة أيام ، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم ماكناً بمسجد قباء، فدفع إليه بالرسالة .
ب ) قرأ أبي بن كعب الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلب إليه ألا يبوح بمضمونها لأحد وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
ج ) أرسل النبي رجلين من أصحابه لمعرفة الموضع الذي وصلته قريش، فوجدها قاربت المدينة وأطلقت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها .
د ) خشي المسلمون عاقبة هذه الغزوة، لأن قريشاً أكملت استحضارها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ حروبها، فبات المسلمون من أهل المدينة وعليهم السلاح بالمسجد وفي مدخل المدينة لحراستها .
ه) جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الرأي من المسلمين صباح يوم الجمعة 15 شوال من السنة الثالثة للهجرة لأخذ رأيهم في كيفية لقاء العدو.
كان رأي النبي أن يتحصنوا بالمدينة وإن يدعوا قريشاً خارجها، فإذا دخلتها قريش قاتلهم فيها قتال الشوارع في منطقة يعرفها المسلمون كل المعرفة ولا تعرفها قريش، مما يساعد المسلمين على ضرب قريش وإيقاع الخسائر الفادحة بها، وكان رأي كبار الصحابة مثل هذا الرأي، كما كان هذا رأي عبد الله بن أبي .
ولكن الرجال الذين لم يشهدوا ( بدراً) – خاصة الشباب منهم – تحمسوا للخروج وأيدهم رجال اشتركوا ببدر، كي لا يرمى المسلمون بالجبن لاضطرارهم إلى القتال داخل المدينة ؛ فراى الرسول صلى الله عليه وسلم إن الأكثرية تؤيد الخروج ، فقال لهم : ( إني اخاف عليكم الهزيمة )، فأبوا مع ذلك إلا الخروج، فنزل على راي الأكثرية، لأن الشورى كانت أساس نظامه الذي لا يحيد عنه.
شعر القوم إنهم استكرهوا الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وأظهروا الرغبة في النزول على رأيه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد غضاضة في الاضطراب بين شتى الآراء والتردد في قرارانة ، فقال : ( ما ينبغي لنبي لبس لامته (الدرع) أن يضعها حتى يحكم الله بينه و بين عدوه).
ثم طلب إليهم الصبر عند البأس.
ز ) تقدم النبي صلى الله عليه وسلم بألف رجل، حتى نزل الشيخين ( موضع في ضواحي المدينة) وهناك رأى مع المسلمين مفرزة لا يعرف أهلها، فلما سأل عنها علم أن أفرادها من اليهود حلفاء عبد الله بن أبي، فرفض معاونتهم له إلا أن يسلموا أو يعودوا أدراجهم … فعادوا إلى المدينة .
وانسحب بعدهم عبد الله بن أبي مع ثلاثمائة من أنصاره، فبقي النبي مع سبعمائة من اصحابه يستعد بهم لقتال ثلاثة آلاف .
ح) عسكر المسلمون بالشعب من موضع (أحد) في عدوة الوادي، جاعلين ظهرهم إلى جبل أحد، وكانت مجمل خطة الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال ما يلي :
أولا – وضع خمسين من الرماة بإمرة عبد الله بن جبير في موضع على طريق تقريبة تؤدي من الجبل إلى خلف قواته، وكان هدفه من وضع هذه القوة هو حرمان العدو من الالتفاف على قواته من الخلف، ولتكون هذه القوة قاعدة أمينة لقواته: تحمى ظهره ويستند إليها وتستر انسحابه عند الحاجة .
وأصدر لهذه القوة الأمر الجازم التالي: ” احموا لنا ظهورنا، فإننا نخاف أن يجينوا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رايتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا، عنا وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل “.
ثانياً، نظم أصحابه صفوفاً للقتال بهم بأسلوب الصف، وتخير الأشداء ليكونوا طليعة الصفوف.
ثالثاً – أصدر أوامره بألا يقاتل أحد إلا بأمر منه.
رابعاً – أخذ يشجع أصحابه ويحثهم على الصبر في القتال .
ط) ولبعث التنافس الشريف في إظهار البطولة ، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم سيفاً بيده، فقال مخاطباً أصحابه : ” من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ ” فقام إليه وجال، فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دجانة سماك بن حرشه فقال: وما حقه يا رسول الله ؟، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” أن تضرب به العدو حتى ينحني “.
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً له عصابة حمراء، إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل، فأخذ السيف وأخرج عصابته الحمراء التي كانوا يسمونها عصابة الموت، وعصب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفين على عاداته إذ يختال عند الحرب، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يتبختر قال : “إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن . . .”.
ي) بهذه الخطة وبهذا الاندفاع كان وضع المسلمين قبل نشوب القتال.
سير القتال
1 – بدء المناوشات
أ) قامت مفرزة من قوات قريش بقيادة أبي عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي بالهجوم على قوات المسلمين، فنشبت الحرب، وكان أبو عامر هذا قد انتقل من المدينة إلى مكة يحرض قريشاً على قتال محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن شهد (بدراً) مع قريش، فخرج إلى (أحد) في خمسة عشر رجلا من الأوس ومن عبيد أهل مكة، وكانت المفرزة التي كانت بإمرته مؤلفة من هؤلاء فقط، وكان يزعم لقريش أنه إذا نادى أهله المسلمين من الأوس الذين يحاربون في صفوف محمد صلى الله عليه وسلم، استجابوا له وانحازوا معه ونصروا قريشاً !..
خرج أبو عامر منادياً: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر ! فأجابه الأوس المسلمون: ولا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ! … ثم هاجموه. ونشب القتال بين الطرفين بعد أن أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالقتال ..
ب) حاول أبو عامر وحاول عكرمة بن أبي جهل أن يلتفا على أجنحة المسلمين، ولكن المسلمين رشقوهم بالحجارة، ولم يكن من السهل الالتفاف على أجنحة المسلمين لاستنادها على هضاب جبل (أحد)، ففشلت محاولات التفاف المشركين .
ح – هتف حمزة بن عبد المطلب بكلمة التعارف للمسلمين في أحد : “أمت أمت”، . ثم اندفع إلى قلب جيش المشركين. ونادى حامل لواء المشركين طلحة ابن أبي طلحة: من يبارز ؟، فخرج إليه علي بن أبي طالب؛ فقتله.
واندفع أبو دجانة وفي يده سيف النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه عصابة الموت، فجعل لا يلقى احداً إلا قتله، حتى شق صفوف المشركين، ثم رأى إنساناً يحث المشركين على القتال، فحمل عليه بالسيف، فإذا بهند بنت عتبة تولول، فارتد عنها أبو دجانة مكرماً سيف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب به إمرأة.
2 – إشتداد القتال ( الصفحة الأولى )
أ) اندفعت قريش إلى القتال يثور في عروقها طلب النار لمن مات من إشرافها وساداتها منذ عام ببدر ، وكان من ورائهم نساؤهم للتشجيع والحث على الاستبسال ، وقد أعدت غير واحدة منهن مولى وعدته الخير الوفير لينتقم لها ممن فجعها ببدر في أب أو أخ أو زوج أو عزيز، وكانت هند بنت عتبة قد وعدت وحشياً الحبشي مولى جبير خيراً كثيراً أن هو قتل حمزة كما قال له جبير ابن مطعم مولاه، وكان عمه قد قتل ببدر: و إن قتلت حمزة عم محمد صلى الله عليه وسلم، فأنت عتیق، وتربص وحشي بين الصفوف يترصد حمزة، حتى رآه في عرض الناس يحطم ابطال المشركين، فصوب إليه حربته وقذفه بها، فأصابت بطن حمزة أسفل سرته وخرجت من بين رجليه، فاستشهد على أثرها .
ب) على الرغم من الخسارة الفادحة التي لحقت بالمسلمين باستشهاد حمزة، فإن قواتهم بقيت مسيطرة على الموقف تماماً، وأخذ لواء المشركين يسقط بين حين وآخر: حمل عثمان بن أبي طلحة اللواء بعد أن قتل علي طلحة بن أبي طلحة، فلما لقي هذا مصرعه، حمله أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله علي بن أبي طالب أو سعد بن أبي وقاص .
وتعاقب حملة لواء المشركين من بني عبد الدار، حتى قتل منهم تسعة. ثم حمله مولى لهم، وحماته إمرأة بعد ذلك لتفرق المشركين عنه .
ج) زحفت صفوف المسلمين على صفوف المشركين بعد تصدعها، فانهزم المشركون حتى أحاط المسلمون بنساء المشركين وحتى وقع الصنم الذي احتماوه المتبرك به فوق الجمل الذي كان يحمله .
وأخذ المسلمون يطاردون المشركين حتى ابعدوهم عن معسكرهم، ثم عادوا يجمعون الغنائم .
ورأى الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا يبرحوا أماكنهم ولو رأوه وأصحابه يقتلون، فقال بعضهم لبعض: لم تقيمون هاهنا في غير شيء وقد هزم الله عدوكم، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم ؟ . …
واختلفوا فيما بينهم، أيتركون مواضعهم أم يبقون فيها، فأصر قائدهم عبد الله بن جبير على البقاء وعصاه أكثرهم وانطلقوا، ولم يبق معه غير نفر دون العشرة ! واشترك المنطلقون في النهب .
3 – هجوم المشركين المقابل (الصفحة الثانية)
أ) انتهز خالد بن الوليد فرصة ترك رماة المسلمين المواضعهم، وكان على ميمنة خيل المشركين، فهجم على مواضع الرماة التي تركوها، واستطاع إجلاء الباقين منهم عن مواضعهم: لقلة عددهم وعدم إمكانهم الصمود في موضعهم الواسع بالنسبة لعددهم الذي أصبح قليلا .
ولم يقطن المسلمون لهذه المباغتة، وصاح خالد يعلن لقريش بأنه التف وراء المسلمين، فعادت قوات قريش المهزومة للقيام بهجوم مقابل جبهوي، بينما قام خالد بالالتفاف من الخلف، فأصبح المسلمون محاطين من كافة جوانبهم، وتحرج موقفهم للغاية، خاصة وإن صفوفهم لم تكن رصينة في مواضعها لتستطيع الصمود، إذ تبعثر أفرادها لجمع الغنائم .
ب) كانت هذه الحركة مباغته تامة للمسلمين لم يكونوا يتوقعونها، فتبعثر تكثرهم وبقي القليل منهم بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلون ليشقوا لهم طريقاً من بين قوات قريش التي أطبقت عليهم من كل جانب، واستشهد كثير من المسلمين وهم يحاولون شق طريقهم، واستطاع المشركون أن يصلوا قريباً جداً من موضع الرسول صلى الله عليه وسلم، فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته، وتمالك الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وسار مع أصحابه الباقين، فإذا به يقع في حفرة حفرها أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأسرع إليه علي بن أبي طالب وأخذ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى.
ج) أخذ المشركون يديمون زخم هجومهم للقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونادى أحدهم: بأنه استطاع قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن أصحابه استماتوا في الدفاع عنه
كانت أم عمارة نسيبة الخزرجية قد خرجت أول النهار ومعها سقاء لها فيه ماء، تدور على المسلمين لتسقي منهم من استسقى، فلما أحاط المشركون بالمسلمين وأصبح الخطر الداهم محدقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، ألقت نسيبه سقاءها واستلت سيفاً وأخذت تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف وترمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليها. وصد أبو دجانة بجسمه النبال المنهالة صوب النبي صلى الله عليه وسلم، فحنى ظهره عليه والنبل يقع فيه. ووقف سعد بن أبي وقاص إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم يرمي بالنبل دونه، والنبي يناوله النبل ويترصد له إصاباته .
ورمى الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه عن قومه، حتى تحطمت القوس .. وتساقط المسلمون.
حوله صرعى واحداً بعد الآخر مستقتلين في الدفاع عنه … حتى استطاعوا شق طريقهم عبر صفوف قريش إلى رابية مشرفة من روابي جبل أحد، وتركت هذه الاستماتة أثرها في قريش، فتوقف زخم الهجوم قليلا، واستفاد المسلمون من هذه الفرصة السانحة، فصعد الرسول صلى الله عليه وسلم بهم إلى جبل أحد. وفي طريق صعوده رآه كعب بن مالك الذي كان بعيداً عنه مع المسلمين الذين تفرقوا عنه لهول صدمة مباغتة قريش لهم ولانتشار إشاعة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فنادى كعب بأعلى صوته :
يا معشر المسلمين . . أبشروا هذا رسول الله. فلما سمعت قريش صيحة كعب لم يصدقها أكثرهم وحسبها صيحة أريد بها شد عزائم المسلمين، إلا أن بعضهم اندفع وراء محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته، وتقدم أبي بن خلف وهو يقول. وأين محمد ؟ لا نجوت إن نجا، . فطعنه الرسول صلى الله عليه وسلم بحربة الحارث بن الصمة طعنة جعلته يتقلب على فرسه ويعود أدراجه ليموت في الطريق .
د ) وصل المسلمون إلى هضبة مرتفعة من جبل أحد، ولكن خالد بن الوليد وصل بفرسانه قريباً منهم، فقام المسلمون عليه بهجوم مقابل واستطاعوا صد قواته .
ه) ذهبت كافة محاولات قريش للقضاء على المسلمين أدراج الرياح، إذ تجمعوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصبحوا تحت قيادته، بعد أن فرقهم جمع الغنائم وصدمة المباغتة عنه، فأصبحوا متفرقين وبدون قيادة .
وبلغ الإعياء برجال قريش حداً بالغا، وفشلت محاولاتها الهجومية المتكررة القضاء على المسلمين نهائياً، فقررت إنهاء القتال ..
وقبل العودة أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد ؟! فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن ابي قحافة ؟!، فلم يجيبوه . فقال: أفيكم عمر بن الخطاب ؟! فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قريش أن قيام الإسلام بهم فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم … فلم يتمالك عمر أن أجاب: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوؤك، وإن محمداً يسمع كلامك الآن .
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: وإن موعدكم بدر للعام القابل .. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: “قل نعم، هو بيننا وبينك موعد “..
وصدق الله العظيم: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين﴾ .
1- المشركون
عودة الطرفين
عاد المشركون أدراجهم إلى مكة، فلما وصلوا موضع (الروحاء) على طريق المدينة – مكة سمع أبو سفيان بخروج المسلمين لقتاله، فخاف أن يكون طريق الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء من المدينة بقوات جديدة، فمر به معن الخزاعي، وكان قد مر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن معه، فسأله أبو سفيان عن المسلمين، فأجابه معن وكان لا يزال مشركاً: أن محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، وقد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه، وكلهم أشد ما يكون عليكم حنقاً ومنكم للثأر طلباً .. .
فكر أبو سفيان أن انكسار قواته إذا اصطدم بالمسلمين ثانية معناه خسارة انتصاره في أحد والقضاء على قريش قضاء لا تقوم لها من بعده قائمة ابداً، فلجأ إلى الحيلة، وبعث مع ركب من بني عبد القبس يقصدون المدينة أن يبلغوا محمداً صلى الله عليه وسلم: أن أبا سيفان قد قرر السير إليهم ليستأصل بقيتهم، ثم سارع بالرجوع إلى مكة .
2 – المسلمون
بعد عودة المشركين ووصول الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينة، قرر الرسول صلى الله عليه وسلم القيام بحركة جريئة تخفف من وقع الهزيمة في أحد وترد إلى المسلمين معنوياتهم، و تدخل إلى روع اليهود والمنافقين الرهبة، وتعيد إلى المسلمين سلطانهم بيثرب قوياً كما كان ..
لذلك خرج بأصحابه الذين اشتركوا بأحد فقط يوم الأحد 16 شوال من السنة الثالثة للهجرة، أي في اليوم الثاني من يوم أحد، المطاردة قوات قريش، فلما وصل موضع ( حمراء الأسد ) وهي على مسافة ثمانية أميال من المدينة وعلى جاءه من يخبره بأن قريشاً قررت السير إليه، طريق المدينة – مكة.
فلم تتضعضع معنويات المسلمين، وقرروا لقاء قريش، وبقوا ينتظرون هناك هذا الوعيد ثلاثة أيام، فلما علموا بانسحاب قريش عادوا أدراجهم إلى المدينة. وبهذه الحركة الجريئة استرد المسلمون كثيرا من مكانتهم التي فقدوها في أحد .
خسائر الطرفين
1- المشركون
قتل من قريش اثنان وعشرون رجلا .
2 – المسلمون
استشهد من المسلمين سبعون رجلا .
أسباب النكبة
1 – أنصر أم اندحار ؟
يقول خطاب شيت: لا أتفق مع المؤرخين في اعتبار نتيجة غزوة أحد نصراً للمشركين واندحاراً للمسلمين، لأن مناقشة المعركة عسكرياً، تظهر انتصار المسلمين على الرغم من خسائرهم الفادحة بالأرواح في هذه المعركة .
ونبدأ المناقشة من الوجهة العسكرية البحتة، لإظهار حقيقة نتائج غزوة أحد:
لقد انتصر المسلمون في ابتداء المعركة حتى استطاعوا طرد المشركين من معسكرهم والإحاطة بنسائهم واموالهم وتعفير لوائهم في التراب، ولكن التفاف خالد بن الوليد وراء المسلمين وقطع خط رجعتهم وهجوم المشركين من الأمام، جعل قوات المسلمين تطبق من كافة الجوانب على قوات المسلمين. هذا الموقف في المعركة جعل خسائر المسلمين تتكاثر، ولكن بقي النصر بجانبهم إلى الأخيرلأن نتيجة كل معركة عسكرياً لا تقاس بعدد الخسائر بالأرواح فقط، بل تقاس بالحصول على هدف القتال الحيوي وهو القضاء المبرم على العدو مادياً ومعنوياً .
فهل استطاع المشركون القضاء على المسلمين مادياً ومعنوياً؟
إن حركة خالد كانت مباغتة للمسلمين بلا شك وقيام المشركين بالهجوم المقابل وإطباقهم على قوات المسلمين من كافة الجوانب وهم متفوقون بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين؛ كل ذلك كان يجب أن تكون نتائجه القضاء الأكيد على كافة قوات المسلمين، ولا يمكن أن يعد التفاف قوة متفوقة تفوقاً ساحقاً على قوة صغيرة أخرى من جميع جوانبها، ثم نجاة تلك القوة الصغيرة بعد إعطاء خسائر عشرة بالمائة من موجودها، إلا انتصاراً لتلك القوة الصغيرة .
ولا يمكن اعتبار فشل القوة الكبيرة في القضاء على القوة الصغيرة مادياً ومعنوياً في مثل هذا الموقف الحرج للغاية، إلا فشلا لها .
ولم تستطع قريش أن تؤثر على معنويات المسلمين أيضاً وإلا لما استطاعوا الخروج لمطاردتها بعد يوم فقط من يوم أحد، دون أن تتجرأ قريش على لقائها بعيداً عن المدينة، خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج للقاء قريش بقوته التي اشتركت (فعلا) بمعركة أحد، دون أن يستعين بغيرهم من الناس.
إن نجاة المسلمين من موقفهم الحرج الذي كانوا فيه بأحد، نصر عظيم لهم . لأن أول نتائج إطباق المشركين عليهم من كافة الجهات كان الفناء التام .
2 – أسباب خسائر المسلمين
إن أسباب كثرة خسائر المسلمين في معركة (أحد) هي ما يلي :
أ- عدم المطاردة
لم يقم المسلمون بالمطاردة في الصفحة الأولى من المعركة بعد انهزام المشركين بعيداً عن معسكرهم، بل انشغلوا بالغنائم، ولو أنهم قاموا بالمطاردة فوراً بعد انهزام المشركين، لقضوا على قواتهم بسهولة، ومن بعد ذلك يعودون الجمع الغنائم .
ب) مخالفة الأوامر
تنفيذ الأوامر هو الضبط العسكري الذي يعتبر روح الجندية والسبب المباشر كل انتصار في كل معركة، ومخالفة الرماة في ترك مواقعهم والإسراع لجمع الغنائم خطأ كبير وقع فيه المسلمون حينذاك، إذ كشف للعدو ظهورهم فاستفاد خالد من هذه الفرصة السانحة لتطويقهم من الخلف، مما أدى إلى الإطباق عليهم من كافة الجهات .
ج) المباغتة
المباغتة مبدأ، من أهم مبادئ الحرب، ومعناها ضرب العدو من مكان أو في زمان أو بأسلوب لا يتوقعه، بحيث يمكن تحطيم قوى العدو المادية والمعنوية.
كان قيام ابن الوليد بالالتفاف وراء قوات المسلمين في الوقت الذي انهزم فيه المشركون مباغتة تامة للمسلمين، فارتبكت صفوفهم بدرجة لم يفرقوا معها بين قوات عدوهم وبين قواتهم، فقتل بعضهم بعضاً، كما تحطمت معنويات الكثير منهم، وأصبحوا لا يعرفون ما يصنعون .
إن هذه المباغتة أتاحت الفرصة لقريش للقضاء على المسلمين وإبادة قواتهم، ولكنهم لم يستطيعوا الاستفادة من موقفهم الممتاز هذا، فضيعوا هذه الفرصة السانحة لجعل معركة أحد حاسمة في نتائجها .
دروس من أحد
1- الحصول على المعلومات
حصل المسلمون على المعلومات الكافية عن نوايا قريش وقوتها وحركتها من رسالة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، في وقت مبكر من حركة قوات قريش باتجاه المدينة لغزو المسلمين .
كما أرسل المسلمون دوريات استطلاعية قبل معركة أحد، فعرفوا مواضع قوات قريش، وأرسلوا دوريات استطلاعية بعد المعركة، لمعرفة اتجاه حركة عودة المشركين .
لقد كان عمل المسلمين في الحصول على المعلومات مفيداً في منع المشركين من مباغتتهم في المدينة .
2- القيادة
كان لقريش في معركه أحد قائد عام هو أبو سفيان، ولم تظهر شخصية هذا القائد في المعركة، كما كانت سيطرته ضعيفة على ما يظهر بدرجة أن نساء المشركين مثلوا بشهداء المسلمين دون رغبته، فلم يستطع أن يفعل شيئاً.
ولو كانت قيادة أبي سفيان على شيء من الكفاءة لاستطاع إبادة المسلمين بعد تطويقهم التام .
أما قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ظهرت بشكل ظاهر في هذه المعركة .
انتخب الموقع المناسب للمعركة واضطر قريشاً إلى قبول المعركة فيه، ونظم خطة القتال، فانتخب مواضع الرماة لحماية ظهور المسلمين، وخصص لهذه المواضع قوة كافية للدفاع عنها بإمرة قائد مسؤول.
إن كل ذلك على أهميته لا يعتبر شيئاً بالنسبة إلى ظهور عبقرية قيادته صلى الله عليه وسلم في أثناء القتال خلال الصفحة الثانية من معركة ركة أحد، حين طوق المشركون المتفوقون بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين قوة المسلمين القليلة، بعد أن انهارت معنويات الكثيرين منهم لما تطاير خبر مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في المعركة فلجأوا إلى الهضاب بعيداً عن ساحة المعركة، وبقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم شرذمة قليلة من المسلمين .
لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف الحرج للغاية بالنسبة للمسلمين الموفق للغاية بالنسبة للمشركين، أن يسيطر على أعصابه في معركة يائسة جداً، ويقود الباقين من المسلمين لشق طريقهم من بين القوات المتفوقة المحيطة بهم، ثم يحتل موضعاً مشرفاً، ويقوم بإعادة تنظيم قواته الباقية ويعيد إليها معنوياتها، ويصد بها هجمات مقابلة شديدة للمشركين، فيحيل الهزيمة الأكيدة الماحقة إلى نصر، لأنه اضطر قريشاً إلى اليأس من القضاء على المسلمين، بعد أن كان فناء المسلمين أمراً محتماً، ثم اضطرهم إلى الانسحاب من المعركة بعد اليأس من إبادة المسلمين .
ولم يكتف بذلك بل خرج في اليوم الثاني من المعركة، لمطاردة قوات المشركين. حتى اضطرهم إلى استعمال الحيلة بإرسال المعلومات الكاذبة للمسلمين عن اعتزامهم إعادة الكرة على قوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يكترث بهذا التهديد وسيطر على أعصابه وقرر لقاء المشركين مهما تكن الظروف والأحوال .
هذه قيادة عبقرية، ظهرت للرسول بهذه المعركة، أقل نتائجها أنه جعل النصر إلى جانب المسلمين المغلوبين .
3 – القضايا التعبوية
أ) مخالفة الأوامر
أخطأ رماة المسلمين في مخالفتهم لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وانسحابهم من مواضعهم الأصلية الجمع الغنائم؛ ولولا انسحابهم لما استطاع خالد بن الوليد ضرب مؤخرتهم، ولما استطاعت قريش تطويق المسلمين.
إن مخالفة الأوامر في أحد، درس في نتائج كل مخالفة عسكرية للأوامر في الحرب، وإن نتائجها المعروفة كافية لغرس هذا الدرس في النفوس، لكي لا يعود أحد لمثلها أبداً.
ب) عدم المطاردة
بعد كل هجوم ناجح لا بد من مطاردة عنيفة للقضاء على العدو .
وقد أخطأ المسلمون في عدم مطاردتهم للمشركين بعد فرار المشركين من مواضعهم وابتعادهم عن معسكرهم والتفاف المسلمين حول نساء المشركين ومواشيهم وإبلهم في الصفحة الأولى من يوم أحد، ولو قام المسلمون بالمطاردة إلى مسافة عشرة أميال على الأقل لأوقعوا بالمشركين خسائر فادحة. ولانتهت معركة أحد إلى نتائج في مصلحة المسلمين .
ج) أسلوب القتال
لقد جرى القتال بين الطرفين بأسلوب الصفوف، وبذلك استطاعت قريش أن تسيطر على المعركة بشكل أفضل من سيطرتها على المعركة التي تجري بأسلوب الكر والفر .
4 – القضايا الإدارية
أ) الإدامة والنقلية
كان المشركون متفوقين على المسلمين بإدامة قواتهم وإعاشتها وتسليحها وفي نقليتها تفوقاً محسوساً مما كان له أثر طيب على سير القتال لصالح المشركين .
ب) الدفن
دفن المشركون قتلاهم وتركوا قتلى المسلمين ولم يكتفوا بذلك بل مثلوا بهم أشنع تمثيل. فقد انطلقت هند بنت عتبة والنسوة اللائي معها يمثلن بالشهداء: يجدعن الآذان والأنوف .. الخ .
أحد في التاريخ
لقد أجمع المؤرخون على اعتبار نتيجة أحد نصراً للمشركين على المسلمين. ولكن الحقائق العسكرية لا تتفق مع ما أجمع عليه المؤرخون .
لقد كان بإمكان المشركين القضاء على قوات المسلمين في معركة أحد، بعد أن استطاعوا إحاطتهم من كافة الجوانب بقوات متفوقة عليهم تفوقاً ساحقاً ومع ذلك استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يشق طريقه بين القوات المحيطة به، ويخلص تسعة أعشار قواته من فناء أكيد .
إن فشل المشركين في القضاء على قوات المسلمين بعد إحاطتهم بقواتهم المتفوقة يعتبر اندحارا لهم .
وإن نجاح المسلمين في الخروج من تطويق المشركين بخسائر عشرة بالمئة من قواتهم القليلة يعتبر نصرا لهم .
وبالإضافة إلى نجاح المسلمين في التخلص من الفناء التام في معركة أحد، فقد نجحوا في معرفة المنافقين بين صفوفهم قبل المعركة وبعدها، مما أتاح لهم القيام بالتطهير العام في صفوفهم بعد (أحد) على هدى وبصيرة .
وبذلك تظهر الفائدة العظيمة لغزوة أحد للمسلمين .
أن نتيجة معركة أحد نصر (تعبوي ) للمشركين على المسلمين، ولكنها فشل (سوقي) للمشركين. ولا يعد النصر التعبوي شيئاً يذكر إلى جانب الفشل السوقي .
التعبوي من التعبئة: الأعمال العسكرية في المعركة. (نتائج معركة واحدة محلية)
السوقي من السوق: وهو الاستفادة من المعارك للحصول على الغرض من الحرب. (نتائج الحرب كلها).