صلح الحديبية

{لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنينَ إِذ يُبايِعونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكينَةَ عَلَيهِم وَأَثابَهُم فَتحًا قَريبًا} [الفتح: ١٨]

غزوة الحديبية

الموقف العام

1- المسلمون

في السنة الأولى من الهجرة عَدل النبي بقبلته عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وجعل المسلمون وجهتم في الصلاة بيت الله بمكة.

وكان العرب يتجهون إلى المسجد الحرام منذ مئات السنين: يحجون إليه من الأشهر الحرم، ويقدسونه ويعبدون أصنامه، ولكن المسلمين كفروا بالأصنام بعد إيمانهم بالله، إلا أنهم لم يكفروا بالبيت العتيق.

فلماذا لا يزور المسلمون المسجد الحرام، ليرى العرب المجتمعون بمكة قوتهم، وليتحدثوا عن احترامهم للبيت.

إن ذلك سيزيد في قوة المسلمين قوة وسيجعل قلوب المشركين تهوي إليهم، وسيشعرون بأنهم ظلموا المسلمين عندما يمنعونهم من حج البيت والعمرة، وسيخفف كل ذلك من حقدهم وبغضائهم، فلا تجتمع قلوبهم على المسلمين ابداً.

قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة في شهر ذي القعدة الحرام من السنة السادسة للهجرة، وأوفد رسله إلى القبائل من غير المسلمين يدعوهم للاشتراك في الخروج إلى الكعبة لزيارتها وتعظيمها لا للقتال، حتى تعلم العرب كلها بأنه خرج في الشهر الحرام حاجاً لا غازياً، فإن أصرت قريش على مقاتلته في الشهر الحرام ومنعه من أداء ما يؤمن به العرب جميعاً، لم تجد من العرب من يؤيدها في موقفها هذا، ولا من يعينها على قتال المسلمين، فتبقى وحدها وتفقد عطف حلفائها، فلا تقوى على صد المسلمين وحدها ما لم يعاونها حلفاؤها من القبائل الأخرى.

2 – المشركون واليهود

لم يبق من المشركين أية قبيلة تستطيع الصمود وحدها أمام قوات المسلمين، وليس أمام القبائل إلا تحشيد قواها لتستطيع المقاومة في معركة غير مضمونة النتائج.

ولا يمكن اجتماع قوات المشركين في صعيد واحد، إلا اذا استثيرت بأسباب حاسمة جداً: كالاعتداء على مقدساتها أو التعرض بأموالها وذراريها، فقد اقتنعت هذه القبائل بأن المسلمين أصبحوا أمنع من أن يصيبوهم أو يصيبوا أموالهم بسوء.

ولم يبق من اليهود إلا يهود خيبر، وهؤلاء لا يقدمون على عمل ضد المسلمين إلا بعد أن يفكروا كثيراً، لئلا يكون مصيرهم كبني قريظة وبني النظير وقينقاع.

قوات الطرفين

1- المسلمون

أربعمائة وألف مسلم بقيادة الرسول، معهم سبعون من القرابين، وسلاحهم السيوف بأغمادها.

2 – المشركون

قريش مع بعض حلفائها المترددين، لأنهم لم يشاطروا قريشاً رأيها في صد المسلمين عن البيت الحرام بعد أن جاءوا لتعظيمه لا للقتال.

أهداف الطرفين

1- المسلمون

إظهار قوة المسلمين لقريش وللقبائل المجتمعة للحج وشدة ضبطهم وطاعتهم للرسول وتعلقهم بالدعوة.

ب) إظهار تعظيم المسلمين للبيت الحرام عملياً، حتى تتأكد العرب من ذلك عن يقين لا يتطرق اليه الشك.

2 – قريش

صد المسلمين عن البيت الحرام حتى لا تتحدث العرب عن دخول المسلمين اليه عنوة، مما يقلل من هيبة قريش واعتبارها المرموق.

الأعمال التمهيدية

1- الحصول على المعلومات

أ- المسلمون

لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم (ذي الحليفة) قلّد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وأرسل رجلاً من خزاعة ليستطلع له أمر قريش، فلما وصل (عُسفان) على بعد مرحلتين من شمال مكة عاد الخزاعي وأخبر المسلمين أن قريشاً وبعض حلفائها قد أجمعوا أمرهم على قتالهم ليصدوهم عن البيت الحرام.

استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه. فكان القرار النهائي: أن هدفهم من غزوتهم هذه هو زيارة البيت، ولن يقاتلوا إلا اذا صدتهم قريش عن هدفهم بالقوة.

ولكنهم رأوا خيل المشركين على مرمى النظر قريباً من عسفان، فأمر الرسول أصحابه بالحركة على طريق فرعية غرب الطريق العام، وكانت طريقاً وعرة قطعها المسلمون بصعوبة فتخلصوا بذلك من الاصطدام بالمشركين، حتى وصلوا ( الحديبية ) على بعد ثلاثة اميال شمال مكة، وعسكروا هناك.

ب) المشركون

بلغ قريشاً أمر حركة المسلمين، فخافت أن يكون ادعاء المسلمين بأنهم جاءوا معتمرين لا مقاتلين حيلة حربية يقصد المسلمون من ورائها مباغتتهم والقضاء عليهم، فعقدوا لخالد وعكرمة بن أبي جهل على مائتي فارس مع بعض المشاة، وتقدم هذا الجيش ليحول بين الرسول ومكة، ولكن فرسان قريش بوغتوا بانحراف المسلمين إلى الطريق الفرعية وتملصهم من الاصطدام، فعادت قوات المشركين أدراجها لتدافع عن مكة قبل أن يصلها المسلمون.

وجاء بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة إلى قريش وأخبرهم أن محمداً جاء زائراً ولا يريد حرباً، ولكن قريشاً أجابت: (إن كان جاء لا يريد قتالاً، فوالله لا يدخل علينا عنوة ابداً ولا تتحدث بذلك عنا العرب).

2 – المناوشات

حاول بعض المتحمسين من قريش أن يهاجموا معسكر المسلمين، وفعلا قام ما يقرب من خمسين مشركاً بالهجوم على المسلمين، ولكن المسلمين استطاعوا أسرهم جميعاً، فأطلقهم الرسول حتى يثبت نواياه السلمية عملياً ولا يترك حجة لقريش تتشبث بها لتحشيد العرب ضد المسلمين.

3 -المفاوضات الابتدائية

أ- المشركون

أرسلت قريش مكزر بن حفص ليرى موقف المسلمين فعاد إليهم ليخبرهم أن محمداً لم يأت مقاتلاً، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، وأرسلوا بعده الحليس بن علقمة سيد الأحابيش، فلما رآه الرسول قال: «إن هذا من قوم يتألهون (أي متدين) فابعثوا الهدي من أمامه ليراه».

رأى الحليس الهدي في الوادي فعاد إلى قريش قبل أن يصل إلى الرسول إعظاماً لما شاهد، وأخبرهم بما رأى، فأجابوه: (اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك). فاستشاط الحليس غضباً وصاح: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظماً له؟ والذي نفس الحليس بيده ليخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد » … فرجته قريش أن يكف عنها حتى تفكر في الأمر!!

ورأت قريش أن توفد عروة بن مسعود، وهو رجل متزن حكيم فكره عروة أن يعود من مفاوضة محمد صلى الله عليه وسلم، فيسمعه رجال قريش ما يسوؤه، فاعتذرت له قريش مؤكدة أنه عندهم غير متهم، وأنها تطمئن إلى حكمته وحسن رأيه، فخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر له أن مكة بلده الحبيب وأن به قومه وعشيرته، فلا يصح له مهاجمتها بمن جمع من أوشاب الناس الذين سينكشفون عنه منهزمين إذا اشتد الخطب، فأجابه أبو بكر: (أنحن ننكشف عنه؟!).

وعاد عروة إلى حديثه مع الرسول، وجعل يمس لحيته وهو يكلمه، فقرع المغيرة بن شعبة يد عروة وهو يقول: ( اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألا تصل اليك).

ورد النبي على عروة بما يقطع لجاجته وينفي كل شبهة: (أنه لا يريد حربا وإنما يريد أن يزور البيت كما يزوره غيره).

عاد عروة من عند الرسول، وقد رأى ما يصنع به أصحابه: لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ، فرجع إلى قريش ليقول: (يا معشر قريش. إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء ابداً، فروا رأيكم).

عادت كافة رسل قريش إليها دون أن يتعرض بهم أحد من المسلمين، وقد اطمأنوا جميعاً إلى نيات المسلمين السلمية، بما جعل حلفاء قريش يقاومون فكرة القتال، بل كادت تنشب حرب أهلية حتى بين متعصبي قريش ومنصفيها.

ب – المسلمون

أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سخراش بن أمية الخزاعي إلى أشراف قريش ليبلغهم عنه بما جاء له، فعقرت قريش ناقته وأرادت قتله، لولا حماية الأحابيش له، فخلوا سبيله على مضض.

وأرسل الرسول عثمان بن عفان إلى قريش، فخرج برسالة الرسول، فلقيه أول ما دخل مكة إبان بن سعيد فأجار عثمان حتى يفرغ من تبليغ رسالته. وبلغ عثمان ما جاء به لقريش. قالت قريش: « يا عثمان إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل » …

قال عثمان: (ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله، إنما جئنا لنزور البيت العتيق ولنعظم حرمته ولنؤدي فرض العبادة عنده، وقد جئنا بالهدي معنا، فإذا نحرنا رجعنا بسلام).

وأجابت قريش بأنها أقسمت لن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم، مكة هذا العام عنوة.

وطال الحديث وطال احتباس عثمان عن المسلمين، وترامى إليهم أن قريشاً قتلته غيلة وغدراً.

وحين بلغت هذه الشائعة مسامع النبي قال: (لا نبرح حتى نناجز القوم). ودعا الناس إلى مبايعته، فبايعه المسلمون على الموت تحت الشجرة بيعة الرضوان.

فلما أتم المسلمون البيعة ضرب الرسول بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم.

على أن عثمان لم يطل احتباسه، فإن قريشاً جزعت أن تصيبه بأذى وهو من سراتها بمكان؛ فعاد وأبلغ محمداً صلى الله عليه وسلم، بأن قريشاً لم تبق عندهم ريبة في أنه وأصحابه جاءوا معظمين للبيت، ولكنهم لا يتركون المسلمين يدخلون مكة هذا العام، حتى لا تتحدث العرب بأنهم هزموا أمام تهديد المسلمين.

1- المفاوضات النهائية

أرسلت قريش سهيل بن عمرو ليفاوض الرسول، على أن يتفق معه على رجوع المسلمين هذا العام عن مكة، فاستقبله الرسول وهو أرغب ما يكون في موادعة القوم وتكلم سهيل فأطال، والمسلمون من حول النبي يسمعون أمر هذه المحادثات ويضيق بعضهم بأمرها صبراً، ولولا ثقة المسلمين بالنبي وإيمانهم به لرفضوا الاتفاق مع قريش ولقاتلوهم حتى يدخلوا مكة، ولكن الرسول بقي مسيطراً على أعصابه مالكاً هدوءه، ولما رأى عمر مغيظاً من سير المفاوضات قال له: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني).

ومما أثار حفيظة المسلمين صبر الرسول أثناء كتابة العهد، فقد دعا الرسول عليا بن أبي طالب وقال له: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم).

فقال سهيل: (أمسك. لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم).

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم). ثم قال: (اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو).

قال سهيل: (أمسك. لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك).
قال الرسول: (اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله)..

الهدنة

1- نص وثيقة الهدنة

(باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين؛ يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردّوه إليه .

وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، وأقمت بها ثلاثا: معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها):

2- أهم بنود الهدنة:

آ) اعتراف قريش بالمسلمين طرفا مساويا لها.
ب) فتح المجال للرسول لعقد محالفات مع القبائل التي لم تكن تطمئن لمحالفته لقوة قريش ولوجود الكعبة بمكة. وخير دليل على ذلك إعلان خزاعة حلفها للرسول بعد هذا الصلح مباشرة.
ج) تيسّر الوقت للمسلمين لنشر دعوتهم بأمان.
د) السماح للمسلمين بزيارة البيت بعد عام والبقاء بمكة ثلاثة أيام.

دروس من الحديبية

1- توخي الهدف

توخي الهدف مبدأٌ من مبادئ الحرب المهمة، وهو أن نعرف هدفنا تمامًا ونفكر بأحسن طريقة للوصول إليه، ثم نقرر خطةً مناسبةً للحصول عليه وننفذ تلك الخطة، جاعلين هدفنا الرئيسي وحده نُصب أعيننا، دون أن تُعيقنا أو تُغير من خطتنا الأهداف الثانوية الأخرى.

وقد برز مبدأ توخي الهدف عند الرسول ﷺ في غزوة الحديبية بأجلى مظاهره، حتى يمكن أن تكون دروس هذه الغزوة من أروع الأمثلة المفيدة للذين يريدون أن يفهموا معنى توخي الهدف.

قرر الرسول ﷺ منذ مغادرته المدينة ألا يحارب قريشًا، بل يبذل كل جهده للتفاهم معها، إلا إذا لم يجد مَناصًا من القتال. ووضع هذا الهدف نُصب عينيه دائمًا.

خرج مُحرمًا، واستصحب أسلحة الراكب، وهي السيوف في القِرَب. فلما علم من دورياته اعتزام قريش على قتاله، أصرّ على السِّلم، فخرج عن الطريق العام إلى طريق فرعية وعرة شديدة الوعورة، مما جعل أصحابه يُكابدون المشقات عند قطعها. ولم يكن الرسول ﷺ يهدف من الخروج عن الطريق العام إلا التملص من اصطدامٍ أكيدٍ بطلائع قريش.

لأن الصمود في موضع (عُسفان) الذي وصله المسلمون يؤدي إلى اصطدام الفريقين، لاندفاع خيالة قريش أمام قواتها الأصلية واقترابها من مواضع المسلمين. ولو انسحبت قوات المسلمين إلى الخلف باتجاه المدينة، لطاردتهم قوات قريش أيضًا، وفي هاتين الحالتين سيحصل الاصطدام الذي لا يريده الرسول ﷺ.

ولكن خروجه عن الطريق العام إلى طريق فرعية باتجاه مكة كان لأن طلائع قريش تضطر إلى الإسراع في العودة أدراجها للدفاع عن مكة، لأن المسلمين هددوها تهديدًا مباشرًا وأصبحوا قريبين منها. ولم تكن حركة المسلمين على هذه الطريق خوفًا من قوات قريش، فالذي يخاف من عدوه لا يقترب من قاعدته الأصيلة، وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصلية حتى يطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب من قاعدته الأصلية.

وعندما وصل الرسول ﷺ إلى الحديبية، بقي مصرًّا على هدفه الذي لم ينسه قط. أفسح المجال لمفاوضي قريش بالقدوم إلى معسكر المسلمين في كل وقت للتأكد من نيات المسلمين السلمية، وأرسل مفاوضين من المسلمين ليؤكدوا للمشركين صدق نياتهم السلمية.

وعندما هاجم بعض المشركين معسكر المسلمين ورموهم بالنبل، حاول المسلمون حينذاك أن يُلقوا القبض على المهاجمين دون أن يُوقعوا بهم خسائر في الأرواح أو الأموال. فاستطاعوا فعلًا تطويقهم والقبض عليهم، ثم أطلقوا سراحهم وأعادوهم إلى قريش دون أن يُلحقوا بهم أي أذى.

ألا يدل ذلك على إصرار الرسول ﷺ على التفاهم مع قريش وإحلال السِّلم بين الطرفين؟ لقد لاحظنا في هذه الغزوة، دون غزوات الرسول ﷺ الأخرى، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، لم يستشر أصحابه في عقد الهدنة واستقل برأيه. وسبب هذا الإصرار على الرأي واضح جدًّا، فقد كان قرار الرسول ﷺ في التشبث بالتفاهم مع قريش نهائيًّا وحاسمًا، لا يحتاج هذا القرار إلى استشارة أحد.

إن الرسول ﷺ كان يتوخى من التفاهم مع قريش أهدافًا بعيدة جدًّا ليس من مصلحة الدعوة ولا من مصلحة المسلمين الإخبار عنها، وقد ظهرت أهدافه فيما بعد.

كانت قوات المسلمين في الحديبية أربعمائة وألف رجل، فأصبحت قواتهم يوم فتح مكة بعد عامين عشرة آلاف رجل.. وشتان بين العددين.

فهل بإمكان الإسلام أن ينتشر بهذه السرعة في مثل تلك الظروف، لو لم تضع الحرب أوزارها بعض الوقت؟

2 – الضبط

لا أكاد أقرأ تفاصيل غزوة الحديبية كما ترويها كتب السيرة، إلا وأهتف من صميم نفسي: ما أعظم الضبط الذي كان يتحلى به الرسول ﷺ وأصحابه حينذاك!

لم يكن موقف الرسول ﷺ والمسلمين سهلًا أثناء مفاوضات الهدنة وبعدها حتى عودتهم للمدينة، فقد كان الرسول ﷺ يعرف أهدافه القريبة والبعيدة ويعمل لها بصبرٍ وأناةٍ وإصرار. ولكن كيف السبيل إلى إفهام كل تلك الأهداف إلى المسلمين في مثل تلك الظروف؟

أما المسلمون، فما أصعب موقفهم! لم يكن أحدٌ منهم يشك في دخوله مكة، فانهارت آمالهم أثناء المفاوضات. ولم يكن أحدٌ يفهم أسباب الهدنة، فشاهدوا هذه الهدنة تصبح أمرًا مفروغًا منه. وكانت عقيدتهم تَطغى على كل شيءٍ سواها، فوجدوا إخوانهم المستضعفين من المسلمين يُرَدّون إلى المشركين ليَفتنوهم عن دينهم.

ولو كان المسلمون ضعفاء أو يشعرون بالضعف لهان الخطب، ولكنهم أقوياء ماديًّا ومعنويًّا، فكيف يقتنعون بالهدنة في شكلها وأسلوبها الذي كان؟

بينما كان الرسول ﷺ يكتب عقد الهدنة، جاء إلى المسلمين أبو جندل – وهو ابن سهيل بن عمرو، ممثل قريش في المفاوضات – يرصف في الحديد، فقد اعتنق الإسلام فلقي العذاب من أهله المشركين.

فلما رأى سهيل ابنه، ضرب وجهه وجعل يجرّه ليردّه إلى قريش، وأبو جندل يصيح بأعلى صوته: «يا معشر المسلمين! أأردُّ إلى المشركين يفتنونني عن ديني؟»

ليس من السهل احتمال المسلمين لمثل هذا الموقف حينذاك. ولكنهم احتملوه صابرين، على الرغم من بعض التذمر الخافت الذي كان يخالج بعض نفوس المسلمين، والذي كان يثيره حرصهم الشديد على عزة الإسلام.

إن ضبط الرسول ﷺ أعصابه أثناء المفاوضات وبعدها، على الرغم من تذمر بعض المسلمين، وضبط المسلمين أعصابهم في مثل ذلك الموقف، على الرغم من حنق بعضهم على المفاوضات والهدنة – كل ذلك يدل على تحلّي المسلمين حينذاك بالضبط المتين بشكل يدعو إلى الإعجاب الشديد!

3- الحياد المسلح

ما كاد عهد الحديبية يُبرم حتى حالفت خُزاعة محمدًا ﷺ، وحالفت بنو بكر قريشًا؛ فربح المسلمون حليفًا قويًّا له أهمية خاصة لقُرب دياره من قريش.

لقد كانت خُزاعة تميل قلبيًّا إلى المسلمين قبل اليوم، وكان الإسلام قد انتشر بين أفرادها، ولكنها لم تستطع أن تُحالف المسلمين قبل هذه الهدنة، لأن ذلك يهدد مصالحها الدينية لوجود البيت الحرام بمكة التي تسيطر عليها قريش، هذا بالإضافة إلى تهديد مصالحها الأخرى.

والهدنة حرمت يهود خيبر من الأمل في معاونة قريش، ألدّ أعداء المسلمين، حين يأتي موعد حساب هؤلاء اليهود، وما أكثر دسائسهم ومشاكلهم التي أثاروها على المسلمين.

والهدنة جعلت المنطقة الجنوبية (جنوب المدينة) أَمْنة بالنسبة للمسلمين، وكانت هذه المنطقة أخطر ما يهدد الدعوة؛ لأن فيها قبائل قوية ذات حضارة وعقيدة. بينما كانت قبائل الشمال حتى حدود العراق والشام بدوية عمَّة في البداوة.

فإذا أمّنت هذه الهدنة الاستقرار الذي جعل الإسلام ينتشر بسرعة فائقة، وأَمِنت القوة والمنعة للمسلمين، فماذا أمّنت لقريش؟

توخت قريش أهدافها سطحية دفعتها إليها العصبية الجاهلية. هي رد المسلمين عن زيارة البيت الحرام هذا العام ليعودوا لزيارته في العام المُقبل، وردّ الذين يسلمون من قريش بدون رضا أوليائهم، حتى لا يكثُر عدد المسلمين. وأن ينالوا بهذه الهدنة الاستقرار ليتفرغوا لتجارتهم. وهذا أهم هدف حيوي بالنسبة لقريش.

فماذا كانت النتيجة؟

وفد أبو بصير من مكة إلى المدينة مسلمًا بغير رأي مولاه، فكتب أزهر بن عوف والأخنس بن شريق إلى النبي ﷺ كي يرده، وبعثا بكتابهما مع رجل من بني عامر ومعه مولى لهما.

قال النبي: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا فيديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك.»

قال أبو بصير: «يا رسول الله، أَتُرَدُّني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟» فكرر الرسول عليه قوله الأول.

انطلق أبو بصير مع الرجلين، حتى إذا كان بذي الحليفة، سأل حارسه العامري أن يريه سيفه، وما أن استوت فبضته في يده حتى علا به العامري، فقَتله. فعاد المولى يعدو ناحية المدينة، حتى أتى النبي، فلما رآه قال: «قتِل صاحبي.»

ثم ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحًا السيف موجهًا الحديث إلى الرسول ﷺ: «يا رسول الله، وفت ذمتك وأدّى الله عنك. أسلمتني إلى القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي …»

لم يخفَ الرسول إعجابه به، وتعجب لو كان معه رجال، قال محمد صلى الله عليه وسلم، لأصحابه عن أبي بصير: «ويل أمه، مسعر حرب لو كان معه رجال…»

وأدرك أبو بصير أنه لا مقام له في المدينة ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر في ناحية تدعى العيص. وشرع يهدد قوافل قريش السائرة بطريق الساحل أهم طرقها إلى الشام، وسمع المسلمون بمكة عن مقام أبي بصير وعن كلمة الرسول فيه: «مسعر حرب لو كان معه رجال.»

فتجمعوا حول أبي بصير في مكمنه يشدون أزره، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين مسلمًا فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو.

وألّف هؤلاء المعذبون الناقمون المستقلون الذين لا ملجأ لهم إلا سيوفهم، وقد فروا من أهلهم وأموالهم بعقيدتهم وإيمانهم، ألف هؤلاء قوة مغاوير (كومندو) لا تمر قافلة لقريش إلا اغتنموها، ولا يرون رجلاً من قريش إلا قتلوه.

وإذا بقريش ترسل إلى الرسول تسترحمه وتناشده الرحم أن يؤوي إليه هؤلاء المسلمين الذين ضيقوا عليها الخناق، فلا حاجة لها بهم.

وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي اعتبرته نصراً لها واعتبره المسلمون -عدا الرسول – شرطًا لا يناسب كرامتهم على أقل تقدير.

وهكذا حافظ المسلمون على عهودهم كلها، وانصرفوا إلى نشر دعوتهم، بينما استمر مشردو المسلمين في التعرض لقريش. وهكذا بقي المسلمون محايدين، وبقي الفارون بدينهم مقاتلين، وبذلك تم الحياد المسلح في أقوى مظاهره للإسلام.

4 – حرب الدعاية

شنَّ المسلمون على قريش، بخروجهم لزيارة البيت العتيق، أضخم حرب دعاية.

لقد أظهروا تعظيمهم للبيت بصورة عملية لا تقبل الشك والمماراة، فتسامع العرب بذلك، فلما أصرت قريش على رجوع المسلمين دون زيارة المسجد الحرام، اعتبر العرب أن قريشاً ظلمت المسلمين، فليس لها أن تحرم أحداً جاء لتعظيم البيت من زيارته.

وقد رأيت كيف أن قريشاً أرسلت الحليس بن علقمة لمفاوضة الرسول، فلما رأى الهدي في الوادي، عاد أدراجه دون أن يقابل محمداً، صلى الله عليه وسلم، وأخبر قريشاً بما رأى، وهددهم أعنف تهديد.

بل إن هذه الدعاية كادت تثير حرباً أهلية داخل مكة، بين قريش نفسها وبين قريش والأحابيش.

أما عثمان فقد استطاع أن يتصل بالمسلمين في مكة حين أرسله الرسول لمفاوضة قريش ويوجههم إلى أهداف الإسلام الحيوية.

لقد كانت غزوة الحديبية حرب دعاية من الطراز الممتاز.

نتائج الحديبية

1- أهم نتائج غزوة الحديبية ما يأتي:

أ- اعتبار المسلمين كطرف مساوٍ لقريش، وهذا أول اعتراف بالدولة الإسلامية من أشد أعدائها وأقواهم في الحجاز.

ب- أصبح المجال مفتوحاً أمام الرسول لمفاوضة القبائل التي لم تكن تطمئن إلى مفاوضته، لقوة قريش ولوجود الكعبة في مكة، وبذلك قوي جانب المسلمين.

ج- التفريق بين قريش وحلفائها من يهود خيبر الذين كانوا لا ينفكون يحرضون القبائل على الرسول.

د- الاستقرار الذي أمّن التفرغ للدعوة وانتشار الإسلام.

هـ: نجاح المسلمين في تحقيق الحياد المسلح؛ حيث كان المسلمون محايدين ومشردوهم مسلحين يقاتلون.

و: إثارة المسلمين للرأي العام ضد قريش بسبب صدها المسلمين عن البيت الحرام، مما أكسب المسلمين عطف الكثير من القبائل، بل وكثير من قريش نفسها والمنطقة المجاورة لها، مما سهل عملية فتح مكة عليهم فيما بعد.

2- هذه هي نتائج الحديبية، وهي بعض أهداف الرسول البعيدة التي لم يستطع المسلمون إدراكها في حينها. فلما عادوا إلى المدينة واستقر بهم المقام هناك، ورأوا بعض تباشير هذه النتائج، قال أبو بكر، معبراً عن رأي المسلمين: «لم يجلب نصرٌ للإسلام ما جلب صلح الحديبية…» ثم نزل في هذا النصر قول الله تعالى: “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”.

وبدأ المسلمون حينذاك يلمسون بُعد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم وتباشير ما بشرهم به من فتح قريب.

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة