بحث مقارن

{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

تطرقنا في بحث القتال في الإسلام إلى المبادئ المثالية التي جاء بها القرآن الكريم الخاصة بأغراض وأهداف وتنظيم الحرب العادلة في الإسلام. كما أوردنا بعض المصطلحات العسكرية والقانونية استناداً إلى أوثق المصادر العسكرية الحديثة وقوانين الحرب والحياد من القانون الدولي. وكان الهدف من ذلك هو إعطاء فكرة واضحة عن المبادئ النظرية في أحدث الكتب العسكرية وأوثقها، وفي أحدث مصادر القانون الدولي، ومقارنتها بالمبادئ المثالية التي جاء بها الإسلام عن الحرب في الإسلام.

وتطرقنا في الفصول التالية إلى أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية التي طبقها (فعلاً) في القتال، حتى نفسح المجال لمقارنة هذه المعلومات (العملية) بالمعلومات النظرية التي أوردناها عند بحث موضوع القتال في الإسلام والمصطلحات العسكرية والقانونية سالفة الذكر.

والحق أن أكثر المعلومات العسكرية النظرية وقوانين الحرب والحياد، هذه المعلومات وهذه القوانين هي حبر على ورق في هذا العصر الذي بلغت فيه المدنية درجة عالية من التقدم والرقي، ومع ذلك فقد طبقها الإسلام حرفياً أو طبق أفضل منها قبل أربعة عشر قرناً بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. والذين استطاعوا أن يستوعبوا تلك المعلومات النظرية المثالية ويقارنوا بينها وبين أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، لا بد وأن يخرجوا بالنتيجة المتوقعة، مهما تكن أهوائهم ومبادئهم،

وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبق النظريات المثالية فعلا في أعماله العسكرية، ولم يخرج عن تعاليمها أبداً في غزواته ومعاركه.

وفي هذه الخاتمة، سأتطرق إلى التطبيق العملي لنظريات الحرب المثالية بصورة موجزة وبشكل لا يدع مجالا للشك ، ذلك التطبيق الذي استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينجزه قبل بضعة عشر قرناً بينما عجز عن تطبيقه العسكريون في القرن العشرين.

ومن السهل جداً أن يسمو الإنسان بتفكيره إلى درجة مثالية عالية ، ولكنه من الصعب جداً أن يطبق تلك المثاليات ( فعلا ) خاصة في الأعمال العسكرية التي تتوقف عليها مصائر الأمم والشعوب ، لأن حالة الحرب ليست من الحالات الاعتيادية التي يستطيع فيها الإنسان أن يسيطر على أعماله في أغلب الأحيان ، إلا أن يكون ذلك الإنسان فوق البشر وتحت الله .

وكم أتمنى أن يقرأ هذا البحث غير المسلمين مهما تبلغ درجة عداواتهم للإسلام ليطمئنوا مع المسلمين مهما تبلغ درجة جبهم للإسلام إلى أن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية تنطبق على أرقى وأحدث النظريات العسكرية المثالية وقوانين الحرب والحياد الإنسانية ، وليتأكدوا بأنفسهم من الأخطاء الفاحشة التي وقع فيها المتعصبون على الإسلام والمتعصبون للإسلام على حد سواء .

فقد غمز المتعصبون على الإسلام أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، فقالوا: إن الإسلام دين قتال يعتمد على الحرب في نشر دعواته، وإن حياة الرسول العسكرية لا تخلو من عدوان، ولكن هذا الغمز خطأ فاحش لا يدل إلا على جهل مطبق أو تعصب ذميم.

وقد ادعى المتعصبون للإسلام، أن انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالخوارق والمعجزات، ولكن هذا الادعاء خطأ فاحش أيضاً لا يقل خطورة عن غمز المتعصبين على الإسلام، ولا يدل إلا على جهل بروح الإسلام الصحيح: تلك الروح العملية الواقعية التي ترتكز على الحق الواضح والعقل السليم، لا على الخيالات والأوهام.

إلى هؤلاء وأولئك أسوق هذا البحث عن الأسباب الحقيقية لانتصار الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن المقارنة بين النظريات التي جاء بها الإسلام في القتال والأعمال التي طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً مع مقارنة أعماله بأحدث قوانين الحرب والحياد الإنسانية، تلك القوانين التي تطابق مبادئ القتال في الإسلام في بعض تعاليمها ونعجز عن السمو إلى مبادئ القتال في الإسلام في تعاليمها الأخرى.

مجمل أسباب النصر

قاد الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثمانياً وعشرين غزوة خلال سبع سنين بعد هجرته إلى المدينة، فقد خرج إلى غزوة ودّان، وهي أول غزوة قادها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه في صَفَر من السنة الثانية للهجرة، وكانت غزوة تبوك آخر غزواته في رجب من السنة الثامنة للهجرة.

وقد نشب القتال بين المسلمين الذين بقيادته وبين المشركين أو اليهود في تسع غزوات من تلك الغزوات، وهي: بدر، وأُحد، والخندق، وقريظة، والمُصطلِق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف، بينما فرَّ المشركون في تسع عشرة غزوة منها بدون قتال.

ومع ذلك، لم يفشل الرسول صلى الله عليه وسلم في أي معركة خاضها المسلمون بقيادته، حتى غزوة أُحد لم تكن فشلاً للمسلمين من الناحية العسكرية كما أسلفنا سابقاً. ولو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد في معركة أُحد، فهل كانت تكون نتائجها خلاص المسلمين من الموقف الخطير الذي أحاط بهم من كل مكان؟ بل لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد في معركة بدر والخندق وحنين، فهل كان ينتصر المسلمون في كل هذه الغزوات؟

إنَّ الذي يدرس غزوات بدر وأُحد والخندق وحنين ويطَّلع على موقف الطرفين: المسلمين والمشركين، ويدقِّق في تطوُّر المعركة، يجد بوضوح الأثرَ الشخصيَّ الفعَّال لقيادة محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين، ذلك الأثرُ الشخصيُّ الحاسم الذي لو لم يكن المسيطرَ الأول على سير القتال، لتبدَّل وجهُ التاريخ الإسلاميِّ عما هو معروفٌ به الآن.

فما هي أسباب انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم في كل معركة خاضها؟

إنَّ انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أربعة أسباب، هي: قيادةٌ عبقريةٌ، وهي قيادة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وجنودٌ ممتازون، وهم المسلمون الأوَّلون؛ وحربٌ عادلة، وهي حرب المسلمين لأعدائهم؛ وأخيراً، تردِّي الحالة العسكرية لأعداء المسلمين من العرب والروم والفرس.

السبب الأول

قيادة عبقرية

1 – مجمل صفات القائد

مزايا القائد الشخصية المثالية – كما تنص عليها نظامات الخدمة العسكرية، وهي من أوثق المصادر العسكرية الحديثة:

“ينحصر أهم واجبٍ للقائد في إصدار القرارات، ولكي تكون قراراته صحيحة، لا تكفيه الشجاعةُ الشخصية، ولا الإرادةُ القويةُ الثابتة، ولا تحمُّلُ المسؤولية بلا تردُّد، بل فضلًا عن ذلك، عليه أن يكون واقفًا وقوفًا تامًّا على مبادئ الحرب، وقادرًا على إبداء الحكم السريع الواضح، وذا مخيلةٍ مقرونةٍ بمزاجٍ لا تأخذه نشوةُ الفوز، ولا تثبط عزيمتُه كارثةُ الخيبة، وأن يكون سابرًا غورَ الطبعِ البشري.”

“ويتمكَّن القائد من المحافظة على معنويات قوته وتنفيذ أوامره، بالثقة والولاء اللذين يبعثهما في نفوس رجاله بقدر ما يتمكَّن من ذلك بوساطة الضبط. “فالشخصيةُ القوية، ومعرفةُ الطبعِ البشري، وإصالةُ الرأيِ الموزون، والتفاهم مع المرؤوسين، عواملُ أدبيةٌ جوهريةٌ في تنشئة الكفاءة العسكرية، فعلى القائد أن يغتنم كلَّ فرصةٍ سانحةٍ للاتصال بمرؤوسيه الآمرين وقطعاته، للوقوف على صفاتهم وما فيهم من جدارة.”

هذه هي الصفاتُ المثاليةُ للقائد التي تنص عليها نظاماتُ الخدمةِ االسفرية، وتضيف إلى كل ذلك بعضُ المصادرِ العسكريةِ الحديثة، ضرورةَ تحلِّي القائدِ بالقابليةِ البدنيةِ، ليستطيع مشاركةَ قواته في تحمُّل مشاق القتال. وهناك من يضيف إلى كل ذلك الماضي الناصع المجيد. والصفاتُ المثاليةُ للقائد

إذن هي: القابليةُ على إعطاء القرار السريع الصحيح – الشجاعةُ الشخصية – الإرادةُ القويةُ الثابتة – تحمُّلُ المسؤولية بلا تردُّد – معرفةُ مبادئ الحرب – نفسيةٌ لا تتبدَّل في حالتي النصر والاندحار – سبقُ النظر – معرفةُ نفسياتِ مرؤوسيه وقابلياتهم – ثقةُ قطعاته به وثقته بقطعاته – المحبةُ المتبادلةُ بينه وبين قواته – شخصيةٌ قويةٌ نافذة – قابليَّةٌ بدنية – ماضٍ ناصعٌ مجيد.

هذه هي الصفاتُ المثاليةُ للقائد الممتاز، وهي نتيجةٌ لدراسةِ شخصياتِ أبرز القادة في التاريخ؛ لذلك هي مجموعةٌ من مزايا شخصياتٍ كثيرةٍ، لا شخصيةٍ واحدة، لذا من الممكن أن تتوفَّر في شخصٍ واحد، كما هو معروف.

ولكن كلُّ هذه الصفاتِ المثاليةِ قليلةٌ جدًّا بالنسبة إلى صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك صفاتٌ أخرى يتحلَّى بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم لم تتطرَّق إليها الكتبُ العسكرية، لأنها صفاتٌ يصعبُ على القادةِ التحلِّي بها، بل هي فوق طاقة البشر بصورةٍ عامَّة، وذوي السلطان منهم بصورةٍ خاصة.

سنطبِّق كلَّ هذه الصفات على شخصية محمدٍ صلى الله عليه وسلم العسكرية، استنادًا إلى تاريخه العسكري الذي تحدَّثنا عنه في الفصول السابقة، لنرى بصورةٍ جازمةٍ: أنَّ هذه الصفاتِ كلَّها، بل أكثر من هذه الصفاتِ كلَّها، كانت من مزايا قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.

٢ – تفصيل الصفات

أ ـ قرارٌ صحيحٌ وسريع

لا بدَّ للقائد أن يصدر قرارًا صحيحًا وسريعًا، ليبني خطَّته استنادًا إلى قراره هذا، ويعمل بموجب تلك الخطة في إدارة رحى القتال.

فكيف يكون القرار صحيحًا وسريعًا؟
يستند إصدارُ القرارِ الصحيحِ السريعِ إلى عاملين: القابليةُ العقليةُ للقائد، والحصولُ على المعلومات.

وليس هناك من ينكر القابليةَ العقليةَ التي كان يمتازُ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك القابليةُ التي لا يختلفُ فيها المسلمون وغيرُ المسلمين، فهو الذي بشَّرَ وأنذرَ وكافح وناقش عقلياتٍ كبيرة، ووحَّد أُمَّة، فهل يمكن أن يتمَّ ذلك إلَّا لعقليةٍ جبَّارةٍ نافذة؟

أمَّا الحصولُ على المعلومات، فيكون بوساطة دوريات القتال والاستطلاع، وبالعيون، واستنطاق الأسرى، والاستطلاع الشخصي، وباستشارة ذوي الرأي.

لقد كان هدفُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم من كافةِ السرايا والغزوات التي أرسلها قبل غزوة بدر الكبرى، هو الحصولَ على المعلومات عن المنطقة المحيطة بالمدينة، والطُّرقِ المؤدية إلى مكة، والتعرُّف على سُكَّانها، وعقدِ الأحلاف معهم.

وفي معركةِ بدر الكبرى، أرسل دوريةً استطلاعيةً لمراقبة عودة قافلة أبي سفيان، وأرسل دورياتٍ استطلاعيةً أمام قواته المتقدِّمة باتجاه بدر، وأرسل دوريتي استطلاع قبيل وصولِ قواته إلى بدر، بل قام الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بالاستطلاعِ الشخصيِّ ليتأكَّدَ من قوة قريش والمواضع التي وصلت إليها.

كما استفاد الرسولُ صلى الله عليه وسلم من استنطاقِ الأسرى الذين استطاعت إحدى دورياتِ الاستطلاعِ القبضَ عليهم قبيل معركة بدر، فعلم منهم – بأسلوبه الرائع في الاستنطاق – الموضعَ الذي وصلته قريش، وعددَ قواتها من الرجال. واستفاد من معرفة أحد أصحابه بخواصِّ مياهِ آبار بدر، وأسلوبِ السيطرة على مياهها. فبدَّل معسكرَهُ الأولَ ليلا إلى معسكرٍ مناسبٍ يؤمِّن له السيطرة على مياه الآبار.

هذه أمثلة من غزوة بدر وحدها، وكل غزواته أمثلة على تشبثه بالحصول على المعلومات. لقد عرف محمد صلى الله عليه وسلم كل نوايا أعدائه…، واستطاع أن يقضي على تلك النوايا العدوانية قبل أن يستفحل أمرها.

ولا عجب إذا كانت خُطَط النبي صلى الله عليه وسلم التي يرسمها استناداً إلى قراراته المهيبة ناجحةً إلى أبعد حدود النجاح.

ب – شجاعة شخصية

شجاعة الرسولِ صلى الله عليه وسلم الشخصيةُ بارزةٌ في كل معاركه التي خاضها، وفي كل أعماله العسكرية وغير العسكرية على حدّ سواء.

قرارهُ قبولُ معركة بدر الكبرى، وهي أولُ معركةٍ حاسمةٍ خاضها المسلمون، شجاعةٌ نادرة، لأنَّ مَوجود قواته ثُلثُ مَوجود قوات قريش، ولأنَّ فشل المسلمين في هذه المعركة قد يقضي على مستقبل الإسلام. وصموده أمام عشرة آلاف من الأحزاب في غزوة الخندق شجاعةٌ نادرةٌ أيضاً، خاصةً بعد نكثِ اليهودِ عهودَهم؛ فأصبح الخطر يهدد قوات المسلمين من خارج المدينة ومن داخلها.

نزل في غزوة بدر الكبرى ليباشر القتال بنفسه، وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب: “إننا كنا إذا اشتد الخطب واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أقربُنا إلى العدو”.

وفزع أهل المدينة ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعاً على فرسٍ لأبي طلحة عرى، والسيف في عُنقه، وهو يقول: لم تُراعوا.

وفي أُحُد، كافح مع جماعةٍ من أصحابه للخروج من الطوق الذي أحاطهم به المشركون، فاستطاع أن يُخلِّص المسلمين من فناءٍ أكيد، ولم يكتفِ بذلك، بل قام بمطاردة قريش إلى موضع (حمراء الأسد).

ولو لم يصمد الرسولُ صلى الله عليه وسلم مع عشرةٍ فقط من أصحابه يوم حُنين، لاستطاعت هوازن وثقيف أن تُبيد المسلمين.

تلك مواقفَ يتصدَّعُ منها قلبُ أشجعِ الشجعان، ومع ذلك فقد ثبت الرسولُ صلى الله عليه وسلم فيها غيرَ مكترثٍ بما يُحدِقُ به من أخطار.

ولولا شجاعة الرسولِ صلى الله عليه وسلم الشخصية التي أظهرها في هذه المواقف وفي غيرها، لما انتصر المسلمون أبداً.

ج – إرادة قوية ثابتة

صمود الرسول صلى الله عليه وسلم وحده تجاه التيار الجارف من المشركين، منذ نزول الوحي عليه حتى التحاقه بالرفيق الأعلى، دليلٌ على إرادته القوية الثابتة التي لا تتزعزع. تحمل الإعراضَ والتكذيبَ والأذى والأخطار صابراً، وهاجر من بلده إلى بلدٍ آخر، واستمر يكافح حتى كوَّن له قوةً تسانده وتؤمن بالإسلام.

ثم كافح بهذه القوة أعداءه في الداخل والخارج: في داخل المدينة ضد اليهود والمنافقين، وفي خارج المدينة ضد المشركين وعلى رأسهم قريش. ولكنه صمد لكل هذا العناء، مُصِرّاً على مكافحة من حوله من الناس جميعاً، حتى يُظهر اللهُ دينَه، غير مكترثٍ بتفوق أعدائه على قواته تفوقاً ساحقاً. إن حياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كلها مثالٌ رائعٌ للإرادة القوية الثابتة.

د- تحمل المسؤولية

لم يكن هناك من يُشارك الرسول صلى الله عليه وسلم في تحمُّل المسؤولية الضخمة في كافة أعماله العسكرية وغير العسكرية، وما أعظمها من أعمالٍ غيَّرت وجه التاريخ. وأيُّ مسؤوليةٍ أخطرُ وأعظمُ من المسؤولية التي كان يتحمَّلها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ مبعثه حتى التحاقه بالرفيق الأعلى.

إنَّ أصحابه كانوا يعاونونه في كل شيء، ولكنه وحده كان يتحمل مسؤولية كل شيء.

هـ – نفسية لا تتبدل

لم تتبدل نفسيةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في حالتي النصر والانحدار. لقد كان مسيطراً على أعصابه سيطرةً أقربَ إلى الخيال منها إلى الحقيقة في أشدِّ المواقف حرجاً وفي أحلك الظروف. لم يكن سهلاً السيطرة على الأعصاب عند تطويق المشركين له وبعض أصحابه في أحد من كل جانب، ومع ذلك سيطر على أعصابه وقاد سفينة المسلمين إلى ساحل الأمان.

ولم يكن سهلاً السيطرة على الأعصاب يوم الأحزاب، خاصةً بعد غدر اليهود، ومع ذلك سيطر على أعصابه، قَصَد الأحزاب وقضى على اليهود. ولم يكن سهلاً السيطرة على الأعصاب يوم حُنين، لما صمد مع عشرة فقط من أصحابه تجاه التيار الجارف من مطاردة المشركين، ومع ذلك فقد سيطر على أعصابه وهزم أعداءه، فعاد أصحابه الفارُّون ليروا أسرى المشركين مكبلين بالأصفاد.

تلك أمثلة من سيطرته على أعصابه في وقت الشدة، أما في وقت الرخاء، فقد كانت سيطرته أروع بكثير مما هي عليه في وقت الشدة. أكبر مثال على ذلك يوم فتح مكة، فقد رآه المسلمون يومئذٍ وقد أحنى رأسه .. وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمسّ رحلته. وكلما استشعر بأهمية نصره، ازداد تواضعاً، وازداد على راحلته خشوعا.

لقد استمر صلى الله عليه وسلم بعد وصوله أعلى مراتب السيطرة والسلطان بسيطاً في مأكله ومشربه وملبسه، وفي حياته كلها كما كان في أول أيامه، يتيما معدماً. استمر يأكل نفس النوع البسيط من الطعام، ويلبس نفس الرداء المتواضع، ويسلك في كل تفاصيل حياته نفس البساطة التي اعتادها في أيامه الأولى. حقاً، إنه كان يمتلك نفساً لا تتبدل!

و – سبق النظر

المخيّلة التي تحسب حساب كل شيء، أو سبق النظر أو بعد النظر، تعني ضرورة تفكير القائد بكافة الاحتمالات القريبة والبعيدة، وإدخال أسوأ الاحتمالات في حسابه، وإعداد الخطط لكل موقف محتمل، حتى يكون تطبيق تلك الخطط عند الحاجة دون تردد ولا ارتباك.

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يتحلى بمزية سبق النظر في كل المجالات العسكرية وغير العسكرية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.

أصرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على قبول شروط هُدنة الحُديبية، لأنه سيق النظر، فعرِف بفكره الثاقب، أن قبول هذه الشروط نصرٌ للمسلمين، فهي تؤمِّن لهم الاستقرار، وقد رأينا كيف أن هذا الاستقرار جعل جيش المسلمين يُصبح عشرة آلاف مقاتل في فتح مكة، وكان ألفًا وأربعمائة في غزوة الحُديبية قبل سنتين. وكانت كل الدلائل تُبشِّر باستسلام قريش يوم الفتح، ومع ذلك اتَّخذ الرسول صلى الله عليه وسلم التدابير لمُعاملة أَسوأ الاحتمالات، فقسَّم قواته إلى أربعة أرتال، ودخل مكة من جهاتها الأربع بتشكيلات القتال، حتى تستطيع قواته القضاء على كل مقاومة بكل سهولة دون أن تُباغَت من جهة غير متوقعة، فتكون العاقبة شرًّا على المسلمين.

لقد كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يُفكِّر بكل كبيرة وصغيرة، ويُعد لكل أمرٍ عُدَّته، ويتخذ كافة متطلبات الحذر والحيطة، لذلك لم يستطع أعداؤه مُباغتته في أي موقف، واستطاع أن يُباغت أعداءه في أكثر غزواته.

ز – معرفة النفسيات والقابليات

عرَفَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم نفسياتِ وقابلياتِ أصحابه، لأنه كان يعيش بينهم كفردٍ منهم، يُشاركهم في السراء والضراء.
عرَفَ مزايا الجميع، وكلَّف كلَّ واحدٍ منهم بواجبٍ يتفق مع قابليته البدنية والعقلية، لذلك استطاع أكثرُ أصحابه إنجازَ مهمتهم بكفاءةٍ وإتقان.
استمال قلوبَ المُؤلَّفةِ قلوبُهم بالمال بعد حُنين، لأن المادة كانت تطغى على جوانب تفكيرهم، إذ لم يستشعروا بعدُ حلاوةَ الإيمان. قال صفوان بن أميَّة: “ما زال رسولُ الله يُعطيني من غنائم حُنين وهو أبغضُ الخلق إليَّ، حتى ما خلقَ الله شيئًا أحبَّ إليَّ منه!!”…

ولكنه حرم الأنصار من الغنائم، لأنهم كانوا أغنياءَ بإيمانهم العظيم، وقد بكَوا حتى أَخضَلوا لحاهم حين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : «أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟» … قال الأنصار: (رضينا بالله وبرسوله قسمًا).

وأمسك الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ بسيفٍ، وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقِّه؟» فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام أبو دُجانة، فقال: «وما حقُّه يا رسول الله؟»
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «أن تضرب به العدوَّ حتى ينحني.»

قاتل أبو دُجانة بهذا السيف قتالًا شديدًا، فلما دارت الدائرة على المسلمين، ترَّس بنفسه دون رسول الله، فحنَى ظهره عليه، والنَّبل يقع فيه.

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن بين أصحابه شجعانًا مغاوير، فكلفهم بواجباتٍ تحتاج إلى الشجاعة كأبي دُجانة؛ وكان يعرف أن بين أصحابه من لا يقوى قلبه على الحرب كحسَّان بن ثابت، فتركه مع النساء يوم أُحُدٍ والخندق، واستفاد من شعره البليغ للدعاية، وكان يعرف من بينهم صاحبَ الرأي والمشورة ومن بينهم من يستطيع قيادة غيره.

ومن بينهم من لا يستطيع أن يكون أكثر من جنديٍّ بسيط، فكلَّف كلَّ واحدٍ من هؤلاء بواجبٍ يستطيع إنجازه.

إنه لم يُحمِّل شخصًا فوق ما يُطيق، وهذا دليلٌ على معرفته نفسيات وخواص وقابليات أصحابه جميعًا.

ولعلَّ أهم ميزةٍ يمتاز بها الرسول صلى الله عليه وسلم على غيره من القادة والرُّسل، هي أنه كان قديرًا على اختيار الرجال لما يُناسبهم من أعمال… إنه كان يعرف النفسية البشرية ويُقدِّرها حقَّ قدرها، ويعرف كيف يُوجِّهها إلى ما يُناسبها.

ح- الثقة المتبادلة

كانت ثقة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم به عظيمةً جدًّا، كما كانت ثقته بأصحابه عظيمةً أيضًا، ويكفي أن نذكر موقف المسلمين من صُلح الحُديبية، إذ لولا ثقتهم العظيمة بالرسول، لرفضوا هذا الصُّلح.

أمَّا ثقته بأصحابه، فيكفي للدلالة عليها أنه قبِل زَجَّ قواته في معركة بدر، بينما كانت قوات المشركين ثلاثة أضعاف قواته، كما زجَّ بهم في معركة أُحد، بينما كانت قوات المشركين خمسة أضعاف قواته… الخ

ولا يمكن أن يقبل القائد الاشتباك في معركة لا يعرف مصيرها ضد أعدائه المتفوِّقين على قواته تفوُّقًا ساحقًا، إلا إذا كان ذلك القائد يثق بقواته ثقةً عظيمةً جدًّا.

ط – المحبة المتبادلة

ظهرت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومحبة أصحابه له في كل غزواته، بل في كل موقفٍ له في السِّلم والحرب. حسبُنا أن نذكر موقف أصحابه منه في معركة أُحد، لما أحدق به المشركون من كل جانب، وصوَّبوا عليه نبالهم، فأخذ المسلمون يَصُدُّون عنه النِّبال المصوَّبة عليه بأجسادهم.
ولم يقتصر ذلك على الرجال، بل شمل النساء أيضًا، فقد ألقت نسيبة سقاءها،

واستلَّتْ سيفًا وأخذت تذود به عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم حتى خَلَدَتِ الجراحُ إليها، فأُصيبت يومذاك بثلاثةَ عشرَ جُرحًا، وأُغمي عليها من النزيف، فلما أفاقت لم تسأل عن زوجها ولا عن ولديها اللذين كانا يُقاتلان مع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل سألت أوَّل ما سألت بعد أن عاد إليها وعيُها: (وكيف حال الرسول؟).

ولما مرض مرضه الذي توفَّاه الله فيه، اعتكف في بيت عائشة، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم السِّتر المضروب على منزل عائشة وفتح الباب وبَرَزَ للناس، فكاد المسلمون يُفتنون في صلاتهم ابتهاجًا برؤيته.

ولما قُبض الرسول صلى الله عليه وسلم وتسرب النبأ الفادح، شعر المسلمون أن آفاق المدينة أظلمت عليهم، فتركتهم لوعةُ الثكل حيارى لا يدرون ما يفعلون.

لقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يحبونه أكثر من حبهم أنفسهم، لأن حبُّهُم له دين، ولو لم يكن دينًا لأحبُّوه أيضًا، لأنه يستحقُّ الحب والتقدير.

أما حُبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فيكفي أن نذكر كيف نعى شهداء مؤتة وعيناه تذرفان، وكيف أنه رفض ما اقترحه عمر حول قتل حاطب بن أبي بلتعة، لأنه أرسل كتابًا إلى قريش يُخبرهم فيه بحركة المسلمين لفتح مكة، بل على العكس، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُذكَر حاطبٌ بأفضل ما فيه.

لقد كان يُحبُّ الصحابةَ حبًّا لا مزيد عليه، فإذا سلَّم عليهم لا يكون البادئ أبدًا بسحب يده عن السلام، وكان يلقى الناس بوجهٍ باسمٍ مُتهلِّل، وكان يمقت الغِيبة، وكان البادئ دائمًا لأصحابه بالتحية.

ما أعظم هذا الحبَّ المتبادل بين القائد وجنوده!

ي – الشخصية

أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي لمفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلم في الحُديبية، فعاد إلى قريش يقول: “يا معشر قريش، إني قد رأيتُ كِسرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشيَّ في مُلكه، وإنِّي واللهِ ما رأيتُ مَلِكًا في قومِه مثل محمدٍ صلى الله عليه وسلم. لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا”.

بهذا الوصف الرائع يصف مشرك من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هي أسباب هذه الشخصية القوية النافذة التي كان يتحلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم؟

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم متواضعًا، حليمًا، رؤوفًا، رحيماً، ومع ذلك، لا يستطيع أحد أن يرفع صوته فوق صوت النبي، ولا يستطيع أحد أن يديم النظر إلى وجهه، ولا يستطيع أحد أن يرد له أمرًا أو يتردد في تنفيذه.

إن أسباب قوة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي محبته للناس جميعًا ورغبته الشديدة في خيرهم وهدايتهم، ومحبته لخالقه العظيم.

تقول كتب علم النفس الحديث: “إن الذين يعملون على إفادة أكبر جزء ممكن من المجتمع الإنساني، يعتبرون أرقى الشخصيات جميعًا، وهم في الغالب أقربها إلى درجات التكامل.

إن درجة تكامل الشخصية تتناسب تناسبًا طرديًا مع اتساع دائرة المجتمع الذي يرمي الفرد إلى إسعاده، فأقلها تكاملًا التي يسعى صاحبها فقط لإسعاد ذاته، إذ لا بد أن تتعارض نزعاته الذاتية مع نزعاته الاجتماعية في تحقيق غايته الذاتية.

ويليها من يسعى صاحبها لإسعاد أسرته وأولاده، ثم يليها من يعمل صاحبها على إسعاد أقاربه، ويليها من يعمل على إسعاد هؤلاء وأصدقائه، ويليها من يعمل لإسعاد أهل بلده أجمعين.

وهكذا، إلى أن تصل إلى من همه الأول والأخير إسعاد المجتمع بأوسع معانيه، وهنا قد نصل إلى مرحلة ربما تبدو مجردة، كالبحث عن الحقيقة ومناصرة العدل وخدمة المجتمع.”

هذا نص ما تقوله كتب علم النفس الحديث، أرأيت كيف أنها تقرر استبعاد إمكان أن يكون هناك إنسان همه الأول والأخير إسعاد البشر؟ إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، بل فعل أكثر من ذلك. ومن حق هؤلاء العلماء أن يستبعدوا إمكان وجود إنسان مثالي، كان همه إسعاد الناس بل إسعاد العالمين، لأنهم يجهلون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.”

فلا عجب أن تكون له كل هذه الشخصية الفذة بكل هذا النور والجلال.

ك – القابلية البدنية

كانت للرسول صلى الله عليه وسلم قابلية بدنية فائقة، وقد رأيت كيف يلجأ إليه أصحابه عند حفر الخندق كلما استعصت عليهم صخرة فيسرع إليها لتحطيمها، حيث تتفتت تحت وطأة مطرقته التي يهوي بها ساعده القوي.

شارك أصحابه في حراساتهم وفي استطلاعاتهم وفي مسيراتهم الطويلة الشاقة في كافة فصول السنة، وأظهر في كل ذلك تحملاً وجلداً يعجز عنه أقوى أصحابه.

ل – الماضي الناصع المجيد

كانت العرب تعتقد بالنسب، والرسول صلى الله عليه وسلم من قريش، أشرف العرب، ومن بني هاشم، أشرف قريش، ولذلك هو أشرف العرب حسبا وأفضلهم نسبًا من قبل أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، ومن قبل أبيه عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف.

أما سيرته الشخصية قبل بعثته صلوات الله عليه، فلأترك سير وليم ميور (Sir William Muir) يتحدث عن ذلك. وقد أوردت هذا الحديث عمدًا على اعتبار أن كاتبه ليس مسلمًا، حتى استبعد اتهام كاتبه بالتعصب والمغالاة.

يقول ميور: “تجمع كل مراجعنا وأسانيدنا فيما ينسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شبابه من سيرة التواضع والاحتشام وطهارة الخلق على صورة نادرة الوجود بين المكيّين.”

ثم يعود فيقول: “ربما وهب له من عقل راجح وذوق رفيع وحرص دقيق وعمق في التأمل،

عاش منطويًا على نفسه طويلًا، متخذًا من تأملاته العقلية – دون ريب – شاغلًا لوقت الفراغ الذي كان يقتله غيره من ذوي الطابع الخسيس باللهو السمج والفجور الماجن والسلوك الخليع. وقد وقع خلق ذلك الشاب القويم ومسلكه الورع والعفّ موقع الحمد والثناء من قلوب قومه جميعًا، وبإجماعهم عن طيب خاطر، نال لقب “الصادق الأمين”. “

ويقول: “لم يولع محمد صلى الله عليه وسلم بالثراء أبدًا ولم تبد منه في أيّة فترة من فترات حياته الرتيبة الهادئة الوادعة على جلبة الرحلة وضوضاء التجارة وهموم السفر، ولم يكن محمد ليفكر أبدًا من تلقاء نفسه في مثل هذه الرحلة، ولكن ما إن اقترح عليه ذلك حتى استشعر نفسه الكريمة على الفور ضرورة البذل لما في وسعه من جهد مساعدة لعمه”.

كانت حياته لا سيما في فجرها المبكر تتميز بالحنو والعطف على اليتيم والفقير والأرمل والبائس والضعيف والرقيق، ولم يذق الخمر أبدًا ولم يلعب الميسر.

يقول ميور: “إن أوثق برهان على صدق محمد وإخلاصه، أن كان أسبق الداخلين في الإسلام من ذوي الاستقامة في خاصّة أصفيائه وأهل بيته، الذين لا يستطيعون – مع معرفتهم الوثيقة بدقائق حياته الخاصة تفصيلًا – أن يفوتهم بحال من الأحوال إدراك ما تنطوي عليه أساليب الأفاكين في نفاقهم. من إسدال السجف والاستار على ما يأتون من أعمال تتناقض حقائقها في سريرتهم مع ما يدعون إليه جهرًا.”

واسمع إلى زوجه خديجة تقول له مشجعةً عندما جاءه الوحي: “ابشر يا ابن العم واثبت. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبدًا. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.”

واسمع قول الله تعالى فيه: “وإنك لعلى خلق عظيم” (القرآن، القلم: 4).

لقد كان ماضي الرسول صلى الله عليه وسلم مجيدًا مشرفًا بإجماع أصحابه وأعدائه على حد سواء.

م – معرفة وتطبيق مبادئ الحرب

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف مبادئ الحرب بالفطرة السليمة التي تدل على استعداده الفطري الممتاز للقيادة. وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلمهذه المبادئ في معاركه كلها، مما كان له أثر حاسم في انتصاراته.

لقد تطرقنا عند بحث أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية إلى أمثلة كثيرة من تطبيقه العملي لمبادئ الحرب العشرة: اختيار المقصد وإدامته، التعرض، المباغتة، تحشيد القوة، الاقتصاد بالمجهود، الأمن، المرونة، التعاون، إدامة المعنويات، الأمور الإدارية. وسنذكر بعض هذه الأمثلة للدلالة على تطبيق هذه المبادئ بكفاءة تدعو إلى الإعجاب.

أولاً – اختيار المقصد وإدامته

كان الرسول يختار مقصده بالضبط، ويفكر في أقوم طريقة للوصول إليه، ثم يقرر خطة مناسبة للحصول عليه. لقد ظهر مبدأ (اختيار المقصد) في أول معاهدة عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، تلك المعاهدة المعقودة بين المسلمين من جهة، والمشركين واليهود من أهل المدينة من جهة أخرى، فنصت تلك المعاهدة على أنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.

إن قريشاً أخرجت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ظلماً وعدواناً، فمن حقه أن تكون قريش (مقصده) الحيوي الذي يختاره. ولعل من أبرز أمثلة (اختيار المقصد)، ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية.

لقد كان (مقصده) من تلك الغزوة التأثير على معنويات قريش من غير قتال، فخرج محرماً واستصحب أسلحة الراكب. فلما علم باقتراب قوات قريش من قواته، ترك الطريق العام إلى طريق فرعية وعرة للتملص من القتال، حتى وصل بقواته إلى الحديبية، وبقي هناك مصراً على (مقصده)، فأفسح المجال للمفاوضات. وعندما هاجم بعض المشركين معسكر قواته وألقى المسلمون القبض على المهاجمين، أطلق سراحهم دون أن يلحق بهم أذى.

وبقي مصراً على هدفه في عدم مهاجمة قريش، حتى تم له عقد صلح الحديبية، على الرغم من تذمر بعض أصحابه من هذا الصلح. إن الرسول صلى الله عليه وسلمكان يختار (مقصدَه) دائماً ولا ينساه أبداً في كافة أعماله العسكرية وغير العسكرية.

ثانياً – التعرض

يمكن اعتبار كافة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم تعرضية ما عدا غزوتي أحد والخندق، إذ أن المشركين هم الذين حشدوا قواتهم في منطقة المدينة وتعرضوا على المسلمين.

لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بشتى الأساليب الحصول على المعلومات عن نوايا أعدائه قبل وقت مناسب، وبذلك استطاع أن يتعرض بأعدائه ويقضي على نواياهم العدوانية.

إن التعرض ليس معناه التحرش، بل معناه الروح الهجومية التي يتحلَّى بها القائد، لأن الدفاع وحده لا يؤدي إلى النصر الحقيقي بل إلى نصر موضعي في حالة نجاحه، أما التعرض فيؤدي في حالة نجاحه إلى النصر.

ثالثاً – المباغتة

المباغتة: إحداث موقف لا يكون العدو مستعداً له، والكتمان من أهم الوسائل المهمة التي تؤدي للمباغتة. إن الكتمان يتم إما بإخفاء استعداداتنا أو بإخفاء نوايانا، أو باستعمال أسلحة جديدة أو استعمال الأسلحة الموجودة بطريقة جديدة. والمباغتة أما أن تكون في المكان أو في الزمان أو في الأسلوب.

لقد طبَّق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ المباغتة بكافة هذه الحالات، حتى يمكن اعتبار غزواته نماذج رائعة لتطبيق أساليب المباغتة. كانت المدينة هي القاعدة الأمينة للمسلمين ولكنها كانت تعج (بالرتل الخامس)، الذين لا يريدون خير المسلمين ويعملون على إحباط أهدافهم بشتى الطرق والأساليب.

من هؤلاء الرتل الخامس اليهود والمنافقون وعيون قريش من الأعراب وعيون الروم من الأنباط، وكان هؤلاء ينقلون أخبار المسلمين إلى أعدائهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على كتمان نواياه حرصاً شديداً، فكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، فينقل الرتل الخامس تلك المعلومات الخاطئة، مما يؤدي إلى بلبلة أفكار أعداء المسلمين.

ومن أمثلة الكتمان الشديد تلك الرسالة المكتومة التي أرسل بها مع عبد الله بن جحش. لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش ألا “يفتح هذه الرسالة إلا” بعد يومين من مسيره، فإذا فتحها وفهم مضمونها مضى في تنفيذها، وبهذه الطريقة لم يستطع أحد من أهل المدينة على اختلاف أهوائهم وميولهم أن يعرف نوايا الرسول ولا واجب سرية عبد الله وهدفها.

وقد أخفى نواياه في غزوة الفتح حتى عن أهله وصديقه أبي بكر. دخل أبو بكر على ابنته عائشة زوج النبي وهي تهيئ جهاز الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لها: «أي بنية، أأمركم رسول الله أن تجهزوه؟»، قالت: «نعم، فتجهز». قال أبو بكر: «فأين ترينه يريد؟»، قالت: «والله لا أدري».

بهذا الكتمان، استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرك جيشاً كبيراً من عشرة آلاف مسلم لفتح مكة دون أن تستطيع قريش معرفة وقت حركته ولا نواياه، حتى وصل الجيش إلى ضواحي مكة، فاضطرت قريش إلى التسليم.

ومن أمثلة المباغتة في المكان غزوة بني لحيان، فقد تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بقواته شمالاً باتجاه الشام حتى لا تعرف قريش وبنو لحيان اتجاه حركته الحقيقي، فلما انتشرت أخبار حركة المسلمين إلى الشمال، عاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقواته فجأة باتجاه بني لحيان، وبذلك باغتهم في المكان.

وفي غزوة خيبر تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم إلى “الرجيع” قريباً من ديار غطفان، وبعد أن أرسل مفرزة صغيرة من قواته إلى معسكر غطفان، عاد بقواته الرئيسية إلى خيبر،

وبهذه الحركة أوهم غطفان بأنه يريدهم وأوهم يهود خيبر بأنه لا يريدهم. فباغت الطرفين ومنع تعاونها في قتال المسلمين.

ومن أمثلة المباغتة في الزمان غزوة بني قريظة، إذ تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم في وقت لا يتوقعونه، فشلّ معنوياتهم واحتفظ بالمبادأة حتى نهاية المعركة. كما أن مسير الاقتراب الذي أجراه الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر بهدوء وسكينة حتى وصل موضع خيبر ليلاً وأكمل تطويقها في نفس الليلة دون أن يستطيع اليهود معرفة وقت وصوله وتطويقه لقصبتهم، وهذا المسير يعتبر مباغتة في الزمان.

ومن أمثلة المباغتة في الأسلوب: قتال الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوب الصف في غزوة بدر تجاه قريش التي قاتلته بأسلوب الكر والفر، ومن الطبيعي أن أسلوب الصف له الأرجحية على أسلوب الكر والفر من الناحية العسكرية.

كما أن حفر الخندق في غزوة الأحزاب كان مباغتة في الأسلوب أيضاً، لأن العرب لم تكن تعرف إنشاء الخنادق لغرض الحماية في الحصار. وقد استخدم المنجنيقات والدبابات في غزوة حصار الطائف، وهذا مباغتة في الأسلوب أيضاً. إن القائد العبقري هو الذي يطبق مبدأ المباغتة في معاركه، والرسول صلى الله عليه وسلم قد طبق هذا المبدأ في كل معاركه، مما كان له أعظم الأثر على نتائجها الحاسمة.

رابعا- تحشيد القوة

منذ نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعمل جاهدا في سبيل نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وانتشار الدعوة معناه ازدياد قوة المسلمين وإكمال تحشدهم.

وهجرته إلى المدينة من الناحية العسكرية، معناها تجدد المسلمين في منطقة واحدة ليكونوا تحت قيادة واحدة.

ولم يبدأ الجهاد في الإسلام، إلا بعد إنجاز التحشد، إذ أصبح المسلمون بدرجة من القوة يستطيعون معها الدفاع عن الإسلام.

لقد رأينا في بيعة العقبة الثانية كيف انكشف للمشركين أمر هذه البيعة، وكيف أظهر الأنصار في حينه عدم اكتراثهم بخطر انكشاف بيعتهم. قال العباس بن عبادة: «يا رسول الله، والله الذي بعثك بالحق إن شئت، لنحملن على أهل منى غدا بأسيافنا».

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبعد نظرا وأرفع من أن تؤثر عليه العاطفة، فقال له: “لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم”…

فلما أنجز الرسول صلى الله عليه وسلم استحضارات تحشده في المدينة، وعاهد أهلها من اليهود والمشركين، بدأ القتال فعلا، لأن قوات المسلمين حينذاك أصبحت من الناحيتين المادية والمعنوية قادرة على حماية الدعوة وصيانة حرية الرأي.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم طبق مبدأ التحشد في كل غزواته، ولم يتردد أبدا في تحشيد أكبر قوة مادية ومعنوية في كل معركة خاضها.

خامسا – الاقتصاد بالمجهود

راعى الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ الاقتصاد بالمجهود في كل غزواته، ولم يندب قوة لواجب ما إلا وهي كافية لذلك الواجب من كافة الوجوه.

نظرة بسيطة إلى الملحق (ح) ومقارنة قوات المسلمين بقوات أعدائهم، تظهر بوضوح مقدار حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيق مبدأ الاقتصاد بالقوة.

سادساً – الأمن

لقد أمن الرسول صلى الله عليه وسلم حماية قواته في كافة غزواته، وبذل جهده لمنع العدو من الحصول على المعلومات، وبذلك طبق مبدأ الأمن.

إن دوريات الاستطلاع والطلائع والساقات التي كان يؤمنها الرسول صلى الله عليه وسلم في مسير الاقتراب وعند العودة من غزواته كان لغرض حماية قواته من مباغتة العدو لها. كما أن تأمين الحراسات والعسس هو لحماية قواته أيضاً من مباغتة العدو لها.

وكما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الحصول على المعلومات من أعدائه بشتى الوسائل كما رأينا سابقاً، فقد حرص على منع العدو من الحصول على المعلومات عن المسلمين بشتى الوسائل أيضاً.

وطبق مبدأ الكتمان في كل أعماله، وحث المسلمين على حفظ الأسرار وعدم إباحتها، وأمر أن يسارع المسلمون بإخباره عن كل حادث مهم.

والحق أن المتتبع لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب أشد الإعجاب بمعرفته فوراً بكل المعلومات التي تهمه وتؤثر على المصلحة العامة للمسلمين.

كيف عرف برسالة حاطب بن أبي بلتعة التي أخبر بها قريشاً بحركة المسلمين لفتح مكة؟ كيف عرف بإزماع أبي سفيان على القدوم إلى المدينة لتمديد فترة الهدنة؟ كيف عرف كل حركات المنافقين وكل مؤامرات اليهود وقضى عليها؟ كيف أحبط كل هذه المؤامرات ومنع افتضاح نوايا المسلمين؟

كل ذلك يدل على حرصه على كتمان نوايا المسلمين، وحرمان العدو من الحصول على المعلومات عن أهداف ومقاصد وحركات المسلمين.

سابعا – المرونة

كانت قوات المسلمين تتحرك إلى أهدافها بكفاءة وسرعة.
لقد استطاعت قوات المسلمين أن تصل إلى أهدافها في الوقت المناسب، فتقوم بإحباط نوايا العدو العدوانية، قبل أن يكمل استعداداته التي تساعده على النجاح.

وصلت قوات المسلمين إلى دومة الجندل، وإلى تبوك، وإلى ربوع فلسطين، وإلى الطائف، وكل هذه الأماكن بعيدة عن قاعدة المسلمين – المدينة، وقد قطعت أكثر هذه المسافات ليلاً، وفي ظروف قاسية من ناحية المشاكل الإدارية والطقس، كما استطاع المسلمون أن يستمروا في الحركة ثلاثين ساعة متتابعة عند عودتهم من غزوة المصطلق.

وقد رأيت كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم مرناً في وضع خططه وفي تنفيذها وكيف أنه يعدل في تلك الخطط، عند الحاجة حسب الظروف الراهنة.

كل ذلك يدل على تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ (المرونة) وتحريك قواته بسرعة لا تقل دقة واتقاناً عن أقوى جيش حديث في هذا العصر، لأن المسيرات الليلية وقطع المسافات الطويلة والاستمرار في المسير ثلاثين ساعة كاملة، دون استراحة، يدل على تدريب راق وكفاءة ممتازة.

ثامناً – التعاون

لقد رأينا كيف تعاون الرماة مع السيافة في غزوة بدر، فقد نضح الرماة المشركين بنبالهم وأوقعوا فيهم خسائر فادحة سهلت مهمة هجوم السيافة للقضاء نهائيًا على مقاومة قريش.

كما رأينا تعاون الفرسان مع المشاة في الغزوات الأخرى. لقد أمن الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ التعاون في غزواته كلها، وذلك بإعطاء كل صنف واجبًا يناسبه، كما أن تعاون الصفوف فيما بينها في الوقت والمكان الجازمين، وبذلك أمن تسهيل مهمة الجميع للوصول إلى النجاح المطلوب.

تاسعاً – إدامة المعنويات

يمكن تعريف المعنويات: بأنها الصفات التي تميز الجيش المدرب عن العصابات: بها تظهر الطاعة القائمة على الحب وتبرز الشجاعة في القتال والصبر على تحمل المشاق، وتبرز كل المزايا التي تجعل الجندي مطيعًا باسلًا صبورًا.

ولست بحاجة إلى التحدث عن طاعة جنود محمد صلى الله عليه وسلم القائمة على الحب المتبادل والثقة المتبادلة. ولا عن شجاعتهم وجلدهم في القتال وصبرهم على تحمل المشاق بعزم لا يعرف التخاذل والانهزام.

حسبي أن أذكر فقط بقصة الحدثين الصغيرين اللذين قتلا أبا جهل في معركة (بدر) الكبرى والتي رواها عبد الرحمن بن عوف، وحسبي أن أذكر أيضًا بقصة نسيبة المازنية (أم عمارة) في معركة (أحد)، وهاتان القصتان معروفَتان ورد ذكرهما في محلهما من هذا الكتاب.

فإذا كانت معنويات الفتيان الأحداث والنساء من المسلمين بهذا المستوى الرفيع، فكيف تكون معنويات الرجال؟

وبهذه المناسبة فإن أوثق المفسرين للقرآن يقولون: بأن الإمداد الملائكي لم يكن إمدادًا حسيًا بل إمدادًا معنويًا.

إن مما يديم المعنويات هو وجود أهداف يؤمن بها الجنود بصورة خاصة والشعب بصورة عامة، وقد كانت أهداف المسلمين جميعًا حينذاك هي إعلاء
كلمة الله والعمل على حرية نشر الدعوة الإسلامية بدون تدخل أحد ونشر ربوع السلام بين الناس كافة – تلك الأهداف التي آمن بها المسلمون إيمانًا عميقًا وضحوا في سبيلها بكل ما يمتلكونه من غال ورخيص: «انفروا خفافًا وثقالًا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله».

كما أن صفات الزعامة الحقة هي التي تخلق المعنويات وتديمها، فإذا كانت الأمة محظوظة تهيأ لها زعيم عظيم حكيم شجاع يبعث الثقة الحقيقية في الأمة.

ولست أعرف زعيمًا لأمة قديمًا أو حديثًا امتلك صفات الزعامة الحقة كما امتلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان في صفاته ومزاياه رجلًا يعادل أمة أو له أمة تعادل رجلًا كما يقولون.

فلا عجب أن تحلى المسلمون بالمعنويات العالية عندما كانوا ضعفاء يتخطفهم الناس من كل جانب في مكة عقر دارهم، وعندما أصبحوا أقوياء يسيطرون على الجزيرة العربية كلها دون منازع.

عاشرًا – الأمور الإدارية

مهما تكن خطة الحركات دقيقة مرنة معقولة، فلا تؤتى ثمراتها المتوقعة إذا تعذر تنفيذها من الوجهة الإدارية، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: إن كل خطة مرهونة بإمكانياتها الإدارية.

لقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمور الإدارية كثيرًا في كل معاركه، فتعاون المسلمون على تزويد المجاهدين بالأرزاق والماء والنقلية والسلاح.

ولقد قرن الإسلام دائمًا الجهاد بالأرواح بالجهاد بالمال: «الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون».

«مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم»، «ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السموات والأرض»، … «تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم» .. «لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة».

بل يلاحظ من تلك الآيات الكريمة، أن المال يقدم على الأنفس دائمًا، مما يدل على اهتمام الإسلام بالأمور الإدارية.

ويقول في الخيل: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»، ويقول: «والعاديات ضبحًا، فالموريات قدحًا، فالمغيرات صبحًا، فأثرن به نقعًا، فوسطن به جمعًا».

ويقول في الحديد الذي يعمل منه السلاح: «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز».

لقد أنفق المسلمون الأولون أموالهم في سبيل الله: مات الرسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، وأنفق أبو بكر جميع ماله سبيل الله وكان يوم أسلم من أغنياء قريش المعدودين. وأنفق عمر بن الخطاب نصف ماله، كما جهز عثمان بن عفان جيش العسرة في غزوة تبوك بالإضافة إلى الأموال الطائلة التي أنفقها على غيرها من الغزوات، أما آل محمد فقد روى الحسن عنهم قال: خطب رسول الله ﷺ فقال: «والله ما أنسى من آل محمد صاعًا من طعام وإنها لتسعة أبيات، والله ما قالها استقلالًا ولكن أراد أن تتأسى به أمته!»

لقد أتعب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من يريد التأسي بهم من المسلمين بعدهم. فأين تضحياتهم حتى بأبسط ضروريات الحياة في سبيل الله والمصلحة العامة قبل أربعة عشر قرنًا من زعماء الشرق والغرب في القرن العشرين، أولئك الذين يتاجرون بالدفاع عن الفقير والعامل والفلاح بالظاهر بينما يعيشون بالحقيقة مترفين في رخاء عظيم!!

٣- مزايا أخرى
أ – المساواة

ساوى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بأصحابه في كل شيء، بل استأثر لنفسه دونهم بالخطر ومضاعفة الجهد وتحمل المسؤولية، والحرمان الشديد. حمل الحجارة والتراب والجريد واللبن كأي فرد من المسلمين عند بناء المسجد في المدينة.

وفي مسير الاقتراب إلى بدر، قسم الإبل المتيسرة وعددها سبعون بعيرًا بين أصحابه، وكان من نصيبه مع علي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي بعير يعتقبونه، تمامًا كما يفعل أي فرد من أفراد قواته.

قال شريكا الرسول صلى الله عليه وسلم في البعير: «نحن نمشي عنك»، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أنتُما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».

وفي غزوة الخندق، حفر بيده وحمل الأحجار والأتربة على عاتقه. قال البراء بن عازب: «كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه». لقد وارى التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر.

وشارك أصحابه في طعامهم وشرابهم ولباسهم، بل آثرهم بالنفيس منها واستأثر دونهم بالخشن. وتحمل أخطر المواقف بنفسه، ولم يترك أصحابه يتعرضون للخطر وحدهم. لقد سخَّر نفسه لخدمة أصحابه، بينما سخَّر القادة قواتهم لخدمتهم.

ب ـ الاستشارة

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في كل المواقف التي لها أثر على مصالح المسلمين عسكرية وغير عسكرية.

استشارهم في كافة غزواته عدا غزوة الحديبية، وأخذ بآرائهم حتى ولو كانت تخالف رأيه، كما حدث فعلًا في غزوة أحد، فقد كان يرى البقاء في المدينة، بينما رأى أكثرية أصحابه الخروج.

أما أسباب عدم استشارتهم في غزوة الحديبية، فلأنه كان يصر على نواياه السلمية التي تؤمن له الاستقرار الضروري لانتشار الإسلام، وكان لبعد نظره المدهش يعرف أن نتائج الصلح ستكون خيرًا شاملاً للدعوة، بينما كان أصحابه يريدون النصر العاجل قبل أوانه.

ج – أساليب جديدة

طبق الرسول صلى الله عليه وسلم أساليب جديدة في القتال.

طبق أسلوب القتال بالصفوف في بدر، فتغلب بهذا الأسلوب على قوات قريش التي بلغت ثلاثة أمثال قواته، لأنهم قاتلوا بأسلوب الكر والفر.

وحفر الخندق في غزوة الأحزاب، ولم تكن العرب تعرف هذا الأسلوب.

وطبق أسلوب قتال المدن والأحراش في غزوة بني النضير وبني قريظة وخيبر، ومن المدهش أن يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم نفس الأسلوب الذي يطبق في الحرب الحديثة في مثل هذا القتال.

واستخدم المنجنيقات والدبابات في غزوة حصار الطائف، وكان استعمال.هذين السلاحين نادرًا عند العرب حينذاك.
وانتخب مقرًا له في غزوة بدر، مراعياً شروط انتخاب المقر، وأمّن حراسته كما يجري في الحرب الحديثة.

وقسّم الأعمال وأمن السيطرة على إنجازها، كما حدث في حفر الخندق. وقام بالهجوم فجراً، ذلك الهجوم الذي يحتاج إلى كفاءة وتدريب ممتازين كما حدث في غزوة بني المصطلق.

وابتكر أسلوب الرسائل المكتومة، على حين يفاخر الألمان في العصر الحاضر بأنهم أول من ابتكروا هذا الأسلوب.

بل إنه طبق الحرب الاجتماعية بحذافيرها، فحشد كل القوى المادية والمعنوية للأغراض العسكرية، وذلك ليؤمن حماية الدعوة من أعدائها الكثيرين، بينما لم تعرف هذه الحرب إلا في الحرب العالمية الثانية فقط، واستأثر الألمان بالمفاخرة في ابتكارها.

٤- قيادة مثالية

رأينا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحلى بكافة صفات القائد المثالي، كما تنص عليها أوثق المصادر العسكرية الحديثة.

ورأينا كيف طبق كل مبادئ الحرب بكل كفاءة، ورأينا كيف أنه تحلى بمزايا أخرى لم تنص عليها المصادر العسكرية لاستبعاد المفكرين العسكريين إمكان توفرها في القادة.

ورأينا كيف طبق أساليب جديدة مبتكرة واستخدم أسلحة جديدة في القتال، فأي قائد تحلى بكل هذه المزايا وطبق كل مبادئ الحرب وابتكر كل هذه الأساليب؟

ذلك هو السبب الأول لانتصار المسلمين على أعدائهم، وقديمًا قالوا: لم يغلب الرومان الغال ولكن قيصر.

السبب الثاني
جنود ممتازون

1 – مزايا الجندي الممتاز


تتلخص مزايا الجندي الممتاز بما يلي:

عقيدة راسخة، ومعنويات عالية، وضبط قوي، وتدريب جيد، وتنظيم صحيح، وتسليح ممتاز.

تلك هي مزايا الجندي الممتاز في كل زمان ومكان، فهل كان جنود محمد صلى الله عليه وسلم يتحلون بهذه المزايا العالية التي تجعلهم جيشًا كفؤًا من كافة الوجوه، أم أنهم يختلفون بشيء في ذلك عن الأعراب الذين كانوا ينتمون إليهم؟

والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل جيش المسلمين يتحلى بكل هذه المزايا الرفيعة؛ فقد بذل غاية الجهد ليغرس كل هذه المزايا في نفوس المسلمين، وبذلك كوّن منهم قوة لا تُغلب، وكانوا قبل حين كغيرهم من القبائل الأخرى؛ تطغى عليهم الأنانية الفردية، ولا يعرفون معنى الضبط والنظام، وليست لديهم عقيدة بالمعنى الصحيح.

ليس من السهل أبدًا، نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في تبديل نفسية رجاله من حال إلى حال، ونجاحه هذا هو معجزة واقعية أكبر وأعظم من معجزات الخيال.

٢ – تفصيل المزايا
أ – عقيدة راسخة


آمن المسلمون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يقاتلون لحماية ما آمنوا به من العدوان حتى تكون كلمة الله هي العليا، وفي سبيل الدفاع عن عقيدتهم التي آمنوا بها كل الإيمان،

تركوا أوطانهم وأموالهم وعرّضوا أنفسهم للخطر، وقاتلوا حتى أولادهم وأهليهم وعشيرتهم. لقد بذلوا كل شيء رخيصاً في سبيل المبدأ الذي اعتنقوه.

التقى الآباء بالأبناء والإخوة بالإخوة والأهل بالأهل: خالفت بينهم المبادىء ففصلت بينهم السيوف.

كان أبو بكر مع المسلمين، وكان ابنه عبد الرحمن مع المشركين؛ وكان عتبة ابن ربيعة مع قريش، وكان ابنه أبو حذيفة مع محمد صلى الله عليه وسلم.

وعندما استشار محمد صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب في مصير أسرى بدر، قال عمر: «أرى ان تمكنّي من فلان -قريب عمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليـــــاً من أخيه عقيل ابن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن الحمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين».

ولما سحبوا جثة عتبة من ربيعة الذي قتل يوم بدر لتدفن في القليب، نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه. فقال له: «يا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟». قال أبو حذيفة: «لا والله يا رسول الله فما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك».

وفي غزوة بني المصطلق، حاول عبد الله بن أبي، رأس المنافقين أن يثير الفتنة بين المهاجرين والأنصار، فأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحركة فورًا حتى لا يستفحل أمر الفتنة، وعند وصول المسلمين إلى المدينة، تقدم عبد الله بن عبد الله بن أبي يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمره بقتل أبيه لأنه حاول إشعال نار الفتنة، ولكن الرسول عفا عنه قائلًا لولده المؤمن: «إنا لا نقتله، بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا».

وفي غزوة بني قريظة طلب اليهود حضور أبي لبابة لاستشارته، فسمح له بالذهاب إليهم.

سَأَلَهُ اليهود: هل ينزلون على حكم محمد؟ قال لهم: نعم، وأشار إلى حلقه كأنه يُنَبِّهُهم إلى أن مصيرهم الذبح. لم يعرف أحد من المسلمين بإشارة أبي لبابة هذه إلى حلقه حين استشاره اليهود، ولكنه أدرك لفوره بأنه خان الله ورسوله بإشارته تلك، فمضى هَائما على وجهه حتى ربط نفسه إلى سارية في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبقي على حاله هذا حتى تاب الله عليه.

وقبيل غزوة الفتح جاء أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار أم حبيبة ابنته وزوج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها طوت الفراش عن والدها، لأنَّها رغبت بالفراش عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الغريب.

لقد أنفق المسلمون أموالهم في سبيل الله، حتى تخلَّل أبو بكر بالعباءة وكان يملك أربعين ألف دينار قبل الإسلام.

فما الذي يدفع لمثل هذه الأعمال الرائعة غير العقيدة الراسخة والإيمان العظيم؟

وهل يقاتل أصحاب مثل هذه العقائد كما يقاتل الذين لا عقيدة لهم إلا أهواء الجاهلية وعصبية الأنانية وحب الفخر والظهور؟ إنَّ عقيدة المسلمين بسمو أهدافهم جعلتهم يستميتون بالقتال.

ب – معنويات عالية


لا قيمة لأي جيش مهما يكن ضخماً في عدده، دقيقاً في تنظيمه، ممتازاً في تسليحه ما لم تكن معنوياته عالية.

كان الجيش الإيطالي في الحرب العالمية الثانية مجهَّزاً بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، وكان تنظيمه دقيقاً، وعدده كبيراً، ولكن معنوياته كانت منحطَّة، فأصبح عبئاً ثقيلاً على الألمان، وكان الحلفاء يطلقون على المواضع التي يحتلها الإيطاليون تعبير “الفراغ العسكري”، لأنهم كانوا يستسلمون دون قتال كلما حاق بهم الخطر الحقيقي أو الوهمي.

شجَّع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل معركة بدر وأثناءها وقوَّى معنوياتهم، حتى لا يكترثوا بتفوق قريش عليهم عددا، فكانت معنويات المسلمين عالية في تلك المعركة.

حتى معنويات الأحداث الصغار منهم كانت عالية للغاية، كما رأيت في تسابق ابني عفراء لقتل أبي جهل.

هل كان بإمكان المسلمين الانتصار بغزوة بدر، والقيام بمحاربة المشركين بعد يوم من غزوة أحد، والصمود في غزوة الأحزاب والإقدام على غزوة تبوك، لو لم تكن معنوياتهم عالية جداً؟

وكما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على رفع معنويات أصحابه بشتى الطرق والمناسبات، عمل على تحطيم معنويات أعدائه بشتى الطرق والمناسبات أيضاً، وما كانت غزوة الحديبية وعمرة القضاء وغزوة تبوك إلا معارك معنويات لا معارك ميدان.

إنَّ عمرة القضاء فتحت قلوب أهل مكة لأنها حطمت معنوياتهم، وغزوة الفتح فتحت أبواب مكة. كما أنَّ نتيجة غزوة تبوك اندحار معنوي للروم، وبذلك اطمأن العرب إلى أن بإمكانهم مقاتلة الروم، وكانوا سابقاً يظنون أن ذلك من المستحيلات.

لقد استهدف الرسول صلى الله عليه وسلم في كل غزواته تحطيم معنويات أعدائه، بل إنَّه كان يستهدف تحطيم المعنويات أكثر مما يستهدف تحطيم القوى المادية، لأنَّه كان يطمع دائماً في عودة أعدائه إلى الصراط المستقيم والهداية، فيحرص على بقائهم أحياء.

إن أكثر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت معارك معنويات تؤثر على النفوس والقلوب، لا معارك خسائر تؤثر على الأرواح والممتلكات.

ويجب ألا ننسى هنا أثر اعتقاد المسلمين بالقضاء والقدر على رفع معنوياتهم لاقتحام الأخطار بشجاعة خارقة، لأنَّ المُقدَّر سيكون حتماً، والشهيد في الجنة، وإنَّما هي إحدى الحُسنيين كما يقولون!

ج – ضبط قوي

كان المسلمون يطيعون محمداً صلى الله عليه وسلم طاعة لا حدود لها، وينفذون أوامره حرفياً بدونن تردد وبكل حرص وأمانة مهما تكن ظروفهم صعبة وواجباتهم شاقة.

وليس هناك ما يبرِّر ذكر أمثلة على قوة ضبط المسلمين، لأنَّ الأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، ولأنَّ الإطاعة في الإسلام دين: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر منكم…).

د – تدريب جيِّد

اهتمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب أصحابه على الرمي وركوب الخيل: «من ترك الرمي بعد ما عَلِمَه، فإنما هي نعمة كَفَرها…».

ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على حثِّ أصحابه للتدريب المستمر على الرمي وركوب الخيل، وهو ما نسمِّيه في الوقت الحاضر: بالتدريب الفردي… بل درَّبهم على تشكيلات مسير الاقتراب، وأساليب القتال، وواجبات الحراسات والخفراء، وهو ما نسمِّيه في الوقت الحاضر بالتدريب الإجمالي.

اتَّخذ التشكيلات المناسبة في مسير الاقتراب في كافة غزواته، فأمَّن بذلك الحماية اللازمة لقواته، وحرَم العدو من مباغتتها.

وقاتل بأسلوب الصفوف في معركة بدر ومعركة أُحد، وفي أكثر غزواته الأخرى، ونظَّم المواضع الدفاعية وراء الخندق في غزوة الأحزاب، وأمن حراسة النقاط الخطيرة.

وقام بقتال المدن والأحراش في قتاله ضد اليهود، كما قامت سرية أبي سلمة بالهجوم فجراً على بني أسد، والنجاح في هذين القتالين يدل على تدريب راقٍ. كما قام بمسيرات طويلة شاقَّة في مختلف الظروف والأحوال ليلاً ونهاراً، ممَّا يمكن اعتباره تدريباً عنيفاً.

كل هذا التدريب الفردي والإجمالي والعنيف جعل تدريب المسلمين جيِّداً، وجعلهم قادرين على القتال بكفاءة في مختلف الظروف والأحوال.

هـ – تنظيم صحيح

كان جيش المسلمين مؤلَّفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل المعروفة حينذاك،

ومعنى ذلك أن جيش المسلمين كان مؤلَّفاً من كافة القبائل العربية لا من قبيلة واحدة. لهذا فإن انتصاره لا يُعتبَر فخراً لقبيلة دون أخرى، كما أن فشل أي قبيلة في التغلُّب عليه لا يُعتبَر عاراً عليها، لأنَّ هذا الجيش لم يكن لقبيلة دون أخرى، بل لم يكن للعرب دون غيرهم، إنما كان للإسلام ولمعتنقي هذا الدين من العرب وغيرهم.

إنني أعتقد أنَّ هذا التنظيم الذي لا يخضع إلا للعقيدة الموحَّدة فقط دون غيرها من المؤثِّرات، جعل القبائل كلَّها لا تحرص على مقاومة جيش المسلمين حرصها على مقاومة قبيلة خاصَّة، وهذا سهَّل مهمَّة المسلمين في القتال.

و – تسليح ممتاز

أصبح تسليح المسلمين بالتدريج ممتازاً، بعد أن كان المشركون متفوقين على المسلمين بالتسليح حتى انتهاء غزوة الخندق.

يكفي أن نسمع وصف الكتيبة الخضراء التي كان معها النبي في غزوة الفتح، فقد كان أفرادها لا يُرى منهم إلا الحَدَق من الحديد.

وقد شجَّع الرسول صلى الله عليه وسلم على صناعة السلاح: (إن الله لَيُدخِلُ بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانِعَهُ المُحْتَسِب في عمله الخير، والرَّامي به، والمُعِدّ له، فارموا واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا).

السبب الثالث
حرب عادلة

2 – تفصيل معنى الحرب العادلة
أ – حرب دفاعية


ارتكبت قريش كلَّ أنواع الظلم والعدوان ضد المسلمين عندما كانوا في مكَّة، فلم يَبْقَ هناك مجال للمسلمين غير ترك أموالهم وأهليهم، والهجرة من مكَّة إلى المدينة تخلُّصاً من هذا الظلم والعدوان.

هاجر أكثر المسلمين من مكة فراراً بعقيدتهم فقط، تاركين فيها كلَّ ما يملكونه من أهلٍ ومال. وكان أكثر هؤلاء المهاجرين من الذين حمتهم عصبتهم من أن يُصيبهم ما أصاب المستضعفين الذين عذَّبتهم قريش، ولَقُوا مصارعهم من جرَّاء هذا التعذيب.

حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، لاقى التكذيب والإهانة، واستمع بصبرٍ عجيب إلى دعايات قريش الكاذبة ضدَّه ومكافحتها العنيفة للدين الجديد.

وقد نجا الرسول صلى الله عليه وسلم من مؤامرة قريش المحكمة التي دبَّرتها لاغتياله، كما نجا من مطاردة قريش له في هجرته إلى المدينة، مُتحمِّلاً المشاقَّ والأهوال.

فأيُّ ظلمٍ وعدوانٍ أكبر من هذا الظلم والعدوان الذي أصاب المسلمين؟! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة قال لقريش: اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء!

فالجُنُوحُ إلى السِّلم دينٌ: «وإن جَنَحوا للسِّلم فاجنَح لها»،

ج – حرب إنسانية
أولاً: احترام الأبرياء


لم يتعرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم لغير المقاتلين في غزواته، وحرص على صيانة واحترام أرواح وأموال الأبرياء.

لما استسلم بنو قريظة، قَتَلَ المسلمون الرجال قاتلوهم فعلًا لأنهم خانوا عهودهم وعرّضوا المسلمين للفناء، أما الأطفال والنساء من بني قريظة فلم يُصَابوا بأذى، كما أن الذين ثبتوا على عهودهم من اليهود لم يُصَابوا بسوء أيضًا.

والمرأة الوحيدة التي قُتِلت من بني قريظة هي التي قتلت مسلمًا بقذفه بالرحى من فوق سطحها، وإنما كان قتلها عقابًا لها على جنايتها هذه، كما هو واضح.

ولما خرج المسلمون لغزوة مُؤتَة أوصاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بألا يقتلوا النساء والأطفال والمكفوفين، ولا يهدموا المنازل، ولا يقطعوا الأشجار.

إنَّ البريء لا يُؤخذ بجريرة المذنب (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

ثانيًا: الأسرى والرهائن


أسر المسلمون سبعين أسيرًا من قريش في غزوة بدر، فوزع ثمانية وستين من هؤلاء على أصحابه قائلًا: (استوصوا بالأسارى خيرًا).

ثم فادى أغنياء الأسرى بالمال، أما الفقراء فأطلق سراح بعضهم دون مقابل، وكلّف المتعلمين منهم بتعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، ثم أطلق سراحهم بعد تعليمهم هؤلاء الأطفال.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أسيرين من السبعين أسيرًا، لأنهما أجرما بحق المسلمين وعذَّبا المستضعفين منهم وشنّعا على الإسلام، فكان قتلهما لجرمهما لا لأنهما أسيران كما يدَّعي بعض المغرضين.

إنَّ هذين الأسيرين كانا “مجرمي حرب” (كما يُطلق عليها في التعابير العسكرية الحديثة)، وعقابهما جزاءً لما جنت أيديهما من ذنوب وآثام.

كما فادى الرسول صلى الله عليه وسلم الأسيرين اللذين وقعا بأيدي سرية عبد الله بن جحش، فأسلم أحدهما وعاد الثاني أدراجه إلى مكة.

ذلك ما طبَّقه المسلمون بحق الأسرى، وهو ما ينطبق على أحدث قوانين معاملة الأسرى في العصر الحاضر. أما الرهائن، فلم يروِ التاريخ أن المسلمين اعتدوا عليهم، لأن الرهائن أمانة، والقرآن يقول: «وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ…».

ثالثًا ـ الجرحى والقتلى


كان بعض أسرى المشركين في غزوة بدر جرحى، وقد اعتنى المسلمون بتمريضهم عنايتهم بجرحاهم سواء بسواء.

ولم يهمل المسلمون أمر الاعتناء بجرحى أعدائهم في كل غزواتهم، لأن هذا الاعتناء قضية إنسانية، والإسلام دين الإنسانية جمعاء.

وقد دفن المسلمون قتلى المشركين في بدر كما دفنوا شهداءهم، ولم يتركوهم في العراء. أما المشركون فقد مثلوا بشهداء المسلمين في أحد أفظع تمثيل، ولم يحدث أن مثّل المسلمون بالقتلى في أي وقت من الأوقات.

٣- حرب عقيدة
ا – لا أغراض شخصية


لم تثر الحرب في الإسلام أغراض شخصية، لأن الإسلام في حقيقته دعوة للمصلحة العامة وتقديم للصالح العام، ولو أدى ذلك إلى تناسي مصالح الأشخاص.
ولم اثر الحرب المطامع الشخصية وحب الامجاد، فقد أرسلت قريش عتبة بن ربيعة وهو رجل رزين هادئ ، فذهب إلى رسول الله يقول له : ” يا ابن أخي ، انك منا حيث علمت من المكان والنسب وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها. إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا” . ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكترث بكل هذا الاغراء .

واشتدّت عداوة قريش، وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: ” ابق على نفسك وعلي ، ولا تحمّلني من الامر ما لا أطيق” . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” يا عماه. والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته ” .

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يردّد دائماً : إنما أنا بشر مثلكم ، ولم يترفع أبداً عن الفقراء والضعفاء والمساكين والخدم ، وسيرته في كل ذلك مضرب الأمثال.
إن حماية حرية نشر العقيدة هي التي أثارت الحرب في الإسلام ، ولم يكن من سبب اثارتها الأغراض الشخصية من بعيد أو قريب .

ب- حرب لا عنصرية


ليس الإسلام ديناً لقبيلة دون قبيلة ، ولا لأمة دون أمة ، ولا لعرب دون العجم . ولكنه كان للناس جميعاً للعالمين ! … ” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ” ف

إنه دين يقاوم العصبية والتعصب ، ويكافح العناصر والأجناس، لأنه يريد أن يجمع العالم كله على صعيد واحد : لتوحيد كلمتهم وتوحيد الله.

” إنما المؤمنون أخوة” ” وليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى” ” وسلمان منا آل البيت” ، ” كلها معناها أن الإسلام قومية ودين تنصهر فيه كل قومية ودين.

‏ لقد رأينا أن الحرب الإجماعية التي دعا إليها الألمان ترتكز على العنصرية الجرمانية ، ورأينا سيطرة التفريق العنصري البغيض بين البيض والسود في أميركا وفي جنوب إفريقيا وغيرها من البلاد ، كل هذا في القرن العشرين عصر النور والمدنية !

أما الإسلام قبل اربعة عشر قرناً ، فقد قاوم العنصريات والاجناس ، ودعا إلى توحيد الأهداف ، فمن آمن بالإسلام كان دمه وعرضه وماله حراما على المسلمين : “المسلم أخو المسلم” .

كان الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش، ولكنه قاتل قريشاً حين اعتدت على المسلمين، وكان عربياً ولكنه قاتل قومه العرب دفاعاً عن الإسلام.

ولما تصدى الروم لعرقلة دعوته قاتلهم، وعندما التحق بالرفيق الأعلى، قاتل حلفاؤه الفرس وغيرهم من الأقوام والأجناس.

إنَّ أعداء المسلمين على اختلاف قومياتهم وأجناسهم، انصهروا بعد إسلامهم بالمسلمين، فأصبح عليهم ما على المسلمين ولهم ما للمسلمين.

إنّ الإسلام ساوى بين الناس في الدنيا والآخرة … أمام الناس وأمام الله “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

ج- حرب لا مادية


لم يكن من أغراض القتال في الإسلام الحصول على المادة والبحث عن الأسواق والخامات واسترقاق المرافق وفرض الاستعمار.

خرج المسلمون للتصدي لقافلة أبي سفيان العائدة من الشام في غزوة بدر، لأنهم أرادوا أن يحرموا قريشاً من طريق مكة-الشام التجارية فيؤثرون بذلك على حالتها الاقتصادية حتى يخففوا من غلواء عدوانهم على المسلمين.

ولكن القافلة أفلتت من أيديهم، ومع ذلك اصطدمت قواتهم بالمشركين.

ولو كانت القضايا المادية هي التي دعتهم للخروج إلى بدر، لعادوا أدراجهم لما علموا بوصول قافلة قريش سالمة إلى مكة….. وقد كان تخلصهم من القتال سهلاً للغاية.

وبعد غزوة حنين، انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوالي شهر قدوم وفد هوازن إليه ليعيد إليهم ما غنمه المسلمون من أموالهم، ولكنهم لم يحضروا، فاضطر إلى توزيع الغنائم، وأعاد السبي إلى وفد هوازن الذي وصل بعد توزيع الغنائم على الناس.

ولكن ما هو نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم من الغنائم؟ “إنه الخمس” وهذا الخمس مردود عليهم، لأنه يصرف في مصالحهم العسكرية وغير العسكرية، فهل أبقى الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا من المال؟

‏قالت عائشة : ” لم يمتلئ جوف النبي (صلى الله عليه وسلم) شبعاً قط، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهّاه، إن اطعموه أكل ،وما اطعموه قبل ،وما سقوه شرب”.

‏ وقالت : “ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتاليين، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم“.

‏ وقالت : ” كنا آل محمد نمكث شهرا ما نستوقد بنار ، إن هو إلا التمر والماء”

‏وقالت: ” توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عنده شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي. وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاع من شعير”
‏ذلك ما أبقاه الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه، ولو كانت له رغبة في المادة، لأبقى لنفسه مال زوجه خديجة، وهو مال كثير !!

وإذا كانت الأهداف رفيعة، تعبت في الحصول عليها الأجساد، وقد أتعب الرسول _ صلى الله الله عليه _ نفسه وأصحابه وأهله وأصحابه في سبيل أهداف الإسلام، ليكونوا أسوة حسنة للمسلمين في كل زمان ومكان.

٤- حرب مثالية


إن تعريف الحرب العادلة كما تنص عليه مصادر القانون الدولي، بالرغم من أنه حبر على ورق بالنسبة لكافة الحروب قديماً وحديثاً، إلا أنه قاصر عن الوفاء بحقّ تعريف القتال في الإسلام
‏ إنَّ أصح تعبير يمكن اطلاقه على تلك الحرب : هو الحرب المثالية.

‏ مثالية لأن أهدافها الدفاع عن حريّة التوحيد وتوطيد أركان الإسلام: تصون أرواح وأموال الأبرياء والضعفاء ، وتعطف على الأسرى والرهائن، وتواسي المرضى والجرحى، ولا تمثل بالقتلى بل تدفنهم كقتلاها، ولا تثيرها الأغراض الشخصية ولا العصبية ولا المنافع المادية ولا الاستغلال والاستعمار .

‏ فإذا لم تكن هذه الحرب مثالية، فأي حرب في التاريخ كله يمكن أن يطلق عليها هذا التعبير؟

‏ عجب ، إذا إذا استطاعت هذه الحرب أن تسيطر على العقول بالمثل العليا قبل أن تسيطر على الحصون والقلاع بالسلاح والرجال.

‏إن هذه الحرب المثالية، جعلت جراح المغلوبين تلتئم بسرعة، فينضمون إلى الغالبين ليكونوا جميعاً تحت راية واحدة، هي راية الإسلام.

‏ولو كانت حرباً ظالمة لما دام الظلم، لأن الظلم لا يدوم وإن دام دمر الغالب والمغلوب فهل يفقه الظالمون ذلك، أم على قلوب أقفالها؟!

‏ولكنها كانت حرباً عادلة إلى حدود المثالية، فاستجاب العرب لأهدافها العالية، ثم حملوا رسالة تلك الأهداف إلى العالم، واستجاب لها الفرس وأهل الشام، وكثير من الأمم والقوميات الأخرى ثم حملوا بدورهم مشعل هدايتها شرقاً وغرباً، فاستنار الشرق بنور الإسلام على حين كان الغرب في دياجين الجهل والظلام.

السبب الرابع:

ضعف الأعداء

كان أعداء المسلمين ضعفاء على الرغم من كثرتهم، لأن العدد الضخم من الجنود لا قيمة له إذا لم يشحن أولئك الجنود بالمعنويات العالية.

لقد رأينا في بحث الموقف العسكري العام للطرفين، أن العرب كانوا متفرقين لا يخضعون إلا لسيطرة رؤسائهم الذين تسيطر عليهم الأهواء والعصبيات.

كما كان النظام العسكري عند الروم والفرس فاسداً، ولم يكن لكل هؤلاء الأعداء أهداف معينة يؤمنون بها ويضحون بأرواحهم وأموالهم في سبيلها، كما كان يفعل المسلمون.
ولم تكن قيادة أعداء المسلمين كفؤة، لأن قيادة القبائل العربية كانت بيد رؤسائها وقيادة الفرس والروم بيد نبلائها الإقطاعيين، حتى ولو كان أولئك الرؤساء وهؤلاء النبلاء لا كفاءة لهم ولا عقلية ولا مؤهلات.

إن أسباب ضعف أعداء المسلمين إذن هي: ضعف القيادة التي كانت وراثية على الأغلب ونظام عسكري فاسد لا يقبل الجنود فيه على القتال إلا بدافع الارتزاق أو بدافع خوف الرؤساء والنبلاء البعيدين عن مشاركة جنودهم في شعورهم وإحساسهم، وعدم وجود أهداف مثالية تؤمن بها قوات العرب والفرس والروم على حد سواء.
‏ولن ينتصر جيش مهما يكن ضخماً، إذا كانت كل أسباب الضعف هذه تنخر في قيادته ونظامه و معنوياته.

الأرض للصالحين


إن النتائج العسكرية لكفاح المسلمين بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم كانت متوقعة منذ بدأ ‏هذا الكفاح، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعدّ كافة وسائل النصر على أعدائه الكثيرين، ولهذا كان واثقا من النصر، فبشر به أصحابه في كل مناسبة.

‏إصطدمت قوتان غير متكافئتين: كان للمسلمين قيادة موحدة مثالية هي قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، رشحته لها كفاءة ممتازة وعبقرية فذة؛ وكان لأعداد المسلمين قوادٌ غير أكفاء رشحتهم لها وراثة الآباء والأجداد وكان قتال المسلمين دفاعاً عن عقيدتهم ولتوطيد أركان السلام، فحربهم عادلة مثالية، بينما كان قتال أعدائهم لتوطيد أركان الظلم والعدوان، فحربهم غير عادلة.
وكان للمسلمين عقيدة راسخة وأهدافٌ معلومة، ولم يكن لأعدائهم عقيدة ولا أهداف.

تلك هي أسباب انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وتلك هي أسباب انتصار كل قوة في كل زمان ومكان.

إنَّ الأرض يرثها العباد الصالحون، وقد كان المسلمون حينذاك هم العباد الصالحين فورثوا الأرض ومن عليها وبقوا يحكمونها حتى غيّروا ما بأنفسهم، فتبدّل الحال غير الحال..
‏ وسيعيدون سيرتهم الأولى بعد أن شبل الوعي الجديد بلاد العرب، لأن العرب مادة الإسلام.

‏ لقد قمنا بدراسة حياة محمد صلى الله عليه وسلم العسكرية من الناحية العسكرية البحتة، فإن أصبنا في بعض نواحيها فتوفيق من الله، وإن أخطأنا في بعض نواحيها فإن الكمال لله وحده. وحسبنا أن تكون هذه الدراسة أول دراسة فنية لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ‏العسكرية، هذه الحياة التي تستحق دراسة أوسع وأدق، فيها كل ما يستحق الاكبار والإعجاب.

وأحمد الله على توفيقه، وأشكره على تسديده وصلى الله على محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم.

محمد شيت خطاب
الزعيم الركن

انتهى بحمد الله – بتصرف-

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة