بين مكة والمدينة

الموقف العسكري العام

(المسلمون)

1-الدعوة سرًّا:

بدأ العمل للتحشد منذ نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ يدعو الناس إلى توحيد الله وتزكية نفوسهم وتطهيرها، وتوحيد الصفوف وفناء مصلحة الفرد في مصلحة الجماعة.
عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام على آل بيته وأصدقائه الذين يعتمد عليهم، فآمن به الصفوة المختارة الذين كونوا الخميرة الأولى لجيش المسلمين .
واستمرت الدعوة مراً ثلاث سنين حتى نزل قول الله : ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾.

2- الدعوة علنًا

إبتدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً إلى الإسلام علنا، وابتدأت قريش تظهر خصومتها للدعوة، وأخذت خصومتهم تشتد وتعنف كلما زاد عدد المسلمين إعتبرت قريش المسلمين عصاة ثائرين، فاستباحت في الحرم الآمن دماء وأموال المستضعفين من المسلمين ممن لا أعوان لهم يدفعون عنهم الظلم والعدوان. أسلم عمار بن ياسر وأسلم أبوه وأمه، فكان المشركون يخرجونهم في الظهيرة إلى العراء فيعذبونهم بحرها، فمات ياسر من العذاب، وأغلظت امرأته القول لأبي جهل، فطعنها بحربة فماتت هي ايضاً ولاقى مثل هذا العذاب ومثل هذا المصير كثير من المستضعفين .

ولم تكتف قريش بذلك، بل شنت حرباً من السخرية على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ساحر، وزعموا أنه كاهن أو شاعر أو مجنون .

وسيطرت قريش على القبائل الوافدة إلى مكة للحج أو للزيارة أو لأغراض أخرى، فخصصوا جماعة منهم لاستقبال الوافدين لينفروهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب الى الحجيج في مجامعهم ، ويطلب منهم النصرة على مشهد من رجال قريش .

واشتدت مقاومة قريش للمسلمين، فأوعز الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المستضعفين منهم وإلى بعض أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، وكان ذلك في السنة الخامسة من مبعثه. ورأت قريش انتشار الإسلام، فعزمت على عقد معاهدة تعتبر فيها المسلمين ومن يرضى بدينهم أو يعطف عليهم أو يحمي احداً منهم حزباً واحداً: لا. يبيعونهم شيئاً ولا يبتاعون منهم شيئاً؛ ولا يزوجونهم أو يتزوجون منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة علقوها في جوف الكعبة توكيداً لنصوصها، فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الالتجاء الشعب بني هاشم، وانحاز اليهم بنو المطلب كافرهم ومؤمنهم عدا أبا لهب ، فقد آزر قريشاً في خصومنها لقومه .

واشتد الحصار على المسلمين، فقل غذاؤهم وكساؤهم وبلغ بهم الجهد أقصاه، ومع ذلك لم تفتر خصومة قريش في حملتها على الإسلام وأصحابه وتأليبها العرب عليهم في كل مكان. وتحمل المسلمون هذه المحنة ثلاث سنوات، حتى تيقظ ضمير بعض أفراد قريش، فنقضوا صحيفة القطيعة .

3-بيعة العقبة الأولى

قدم سويد بن الصامت من الأوس الى مكة حاجاً، فتصدى له الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام، فقال سويد: “إن هذا القول حسن، ثم انصرف الى المدينة وأخبر قومه بما سمع، ولكنه قتل يوم ( بعاث ) عند نشوب القتال بين قوم الأوس وأعدائهم الخزرج من أهل المدينة.
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، فرأى سبعة رجال من الخزرج عند العقبة، فعرض عليهم الإسلام؛ فأجابوه وصدقوه. فلما عاد هؤلاء الى المدينة، ذكروا إسلامهم لقومهم، ودعوهم إلى الإسلام، فانتشر الإسلام في المدينة .
وبعد عام واحد قدم إلى مكة في موسم الحج اثنا عشر رجلا، فلقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة. فبايعوه على الإيمان بالله وحده والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن الرذائل.
وبعث النبي مصعب بن عمير ليتعهد انتشار الإسلام في المدينة ويقرأ على أهلها القرآن ويفقههم في الدين، فدخلت في الإسلام جموع غفيرة من أهل يثرب.
إن بيعة العقبة أول نجاح عسكري للرسول خارج مكة، إذ انتشر الإسلام.
في يثرب، فأصبح للنبي فيها جنود يعتمد عليهم في الملمات.

4- بيعة العقبة الثانية

لما انتشر الإسلام في المدينة، خرج منها سبعون رجلا من المسلمين مع قومهم. المشركين يريدون لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في موسم الحج في مكة، فلما وصلوا، واعدوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا به ليلا في العقبة .
ومضى ثلث الليل فأخذوا يتسللون جماعات صغيرة إلى المثابة في العقبة، حتى اجتمع هناك سبعون رجلا من الأوس والخزرج معهم امرأتان: نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي .
وجاء النبي ومعه عمه العباس وهو حينذاك كافر، ولكنه أراد أن يطمئن إلى مصير ابن أخيه. وتكلم العباس وتكلم بعده الرسول صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ورغب بالإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك وهم يقولون : ” لنمنعنك مما تمنع منه أزرنا (أي نساءنا) فبايعنا يا رسول الله، فوالله نحن أبناء الحروب، وأهل الحلقة (أي السلاح) ورثناها كابراً عن كابر”.
وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم، فأخرجوا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .. وبذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بتنظيم أتباعه خارج مكة .
واستمع أحد المشركين – وهو يتجول صدفة بين مضارب الخيام ومنازل الحجيج – ما دار في هذا الاجتماع، فصرخ ينذر أهل مكة: أن محمداً صلى الله عليه وسلم والصبّاء معه قد اجتمعوا على حربكم .
لم يكترث المبايعون بانكشاف أمرهم، بل أرادوا مهاجمة قريش بأسيافهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بالعودة إلى رحالهم ..
إذ لم يأذن الله لهم بالقتال بعد. فلما أصبحوا جاءهم رجالات قريش فقالوا : يا معشر الخزرج :” إنه قد بلغنا إنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم ” . ولكن مشركي الخزرج الذين لم يكونوا يعلمون، بالبيعة، حلفوا لقريش : إنه ما كان من هذا الشيء، ما علموه، فصدقت قريش .

إن بيعة العقبة الثانية نجاح عسكري آخر للرسول صلى الله عليه وسلم.

5- التحشد في المدينة

امر الرسول صلى الله عليه وسلم مسلمي مكة بالهجرة إلى إخوانهم في المدينة، فهاجر المسلمون بالتعاقب تاركين أموالهم وأهليهم هناك واجتمع رجالات قريش في دار الندوة، وقرروا أن يأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فنياً، ثم يمطون كل فتى من هؤلاء سيفاً صارماً، ويرسلونهم لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يتفرق دمه في القبائل كلها، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فيرضون بالدية .
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالمؤامرة، فهاجر مع أبي بكر قبل تنفيذها، واستطاع الوصول سالما إلى المدينة، على الرغم من تشبت قريش الشديد بإلقاء القبض عليه.
وترامت أخبار المهاجر العظيم إلى المدينة .. فكان أهلها يخرجون كل صباح لاستقباله، فإذا اشتد الحر عادوا إلى بيوتهم، فلما وصل قريباً من المدينة خرج أهلها لاستقباله بالسلاح، ولبست المدينة حلّة العيد .

إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معناها اجتماع القائد يجنوده في قاعدتهم الأمينة ..

6- إنجاز التحشد

أ‌) بناء المسجد
انتخب الرسول صلى الله عليه وسلم موضعاً مناسباً لبناء مسجده في المدينة، وبدأ ببنائه باللبن، واشترك مع أصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم، فتم بناء المسجد :
فراشه الرمل والحصى، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع .
وتم ببناء هذا المسجد بناء ( الثكنة ) الأولى في الإسلام .

ب ) الأخوة
آخي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، حتى يتعاونوا على أسباب العيش ويكون الجميع يداً واحدة تعمل لهدف واحد .
آخی بین عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي إلى نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبها إليك فسمّها لي، أطلقها؛ فإذا انقضت عدتها، فتزوجها ” ..

هذا مثال من الإيثار الذي كان نتيجة لهذا التآخي .

وظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات الى موقعة بدر، حيث استقر أمر المسلمين، فألغي التوارث بعقد الأخوة ورجع إلى ذوي الرحم .
إن التآخي جعل المسلمين كرجل واحد، يعمل لهدف واحد، بإمرة قائد واحد.

ج ) المعاهدات

عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة بين المسلمين من جهة واليهود المشركين من أهل المدينة من جهة أخرى، ودعاهم فيها وأقرهم على دينهم وأموالهم .
وفي هذه المعاهدة نظم الرسول صلى الله عليه وسلم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لكافة سكان المدينة من المسلمين والمشركين واليهود
نظم بها الحياة الاقتصادية، فالفقير يجد معاونة من الغني في معيشته وقك دیونه وتحمل فدائه وديته .
ونظم بها الحياة الاجتماعية، فالجار له حرمة من جاره، وسكان المدينة آمنون فيها من القتل والاغتيال والغدر، ولكل دينه الذي هو عليه، والمجرم ينال عقابه على جرمه دون أن يحول دون تنفيذ العقاب عليه حائل، وليسهناك ما يفرق بين الصفوف من دين أو أغراض أخرى .

هاتان الناحيتان : الاقتصادية والاجتماعية واضحتان ومفهومتان في المعاهدة، وإنما يهمنا الناحية العسكرية فيها بالدرجة الأولى .

لقد نصت المعاهدة على قيادة محمد صلى الله عليه وسلم لكافة سكان المدينة: مسلمين ومشركين ويهود. فإليه يرجع الأمر كله، وله أن يحكم في كل اختلاف يقع بين السكان، وبذلك أصبح محمد صلى الله عليه وسلم القائد العام في المدينة .
كما نصت المعاهدة على تعاون أهل المدينة في رد كل اعتداء يقع عليها من الخارج، وبذلك توحدت صفوف أهل المدينة نحو هدف واحد .. كما أعلنت المعاهدة بصراحة أنه لا يجوز لمشرك من أهل المدينة أن يجير مالاً لقريش ولا نفساً، وأن اليهود يعاونون المؤمنين في النفقة عليهم ما داموا محاربين، وبذلك أوشك الكفاح بين المسلمين وقريش أن يبدأ .
بهذه المعاهدة استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل أهل المدينة كلهم على اختلاف دينهم يداً واحدة على أعدائهم.
لقد أنجز الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المعاهدة كافة استحضارات تحشد قواته، فأصبحت جاهزة للدفاع عن الإسلام .

7- النتائج

لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إلى المدينة ويحشد قواته فيها، ويوحد صفوف سكانها على اختلاف ميولهم وأهوائهم ودياناتهم، ويجعلهم كتلة متحدة للدفاع عنها ضد الغارات الخارجية، وكتلة واحدة للقضاء على الاختلافات الداخلية .
وعلى الرغم من أن المسلمين وحدهم – على قلتهم يومذاك – هم جيش الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعتمد عليه في كفاح أعدائه، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يغرس فيهم عقدة راسخة يؤمنون بها كل الإيمان، وأن يجعل لهم أهدافاً واضحة كل الوضوح يبذلون في سبيل تحقيقها أرواحهم وأموالهم .
لقد كانت أهدافهم الدفاع عن الإسلام والعمل على حماية حرية انتشاره، وفي سبيل الدفاع عن الإسلام وفي سبيل حماية حرية انتشاره بين الناس يرخصون كل غال ورخيص .

لقد تهيأ الآن للرسول صلى الله عليه وسلم جيش يجمعه هدف موحد، يأتمر بأمر قائد واحد، يستند إلى قاعدة أمينة، وبذلك تهيأت للمسلمين – على رغم قلة عددهم – كل أسباب النجاح عند نشوب القتال .

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة