القصاص العادل

﴿وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ﴾ [النحل: 126]

محاسبة الغادرين

الموقف العام

1- المسلمون

استطاع المسلمون الصمود أمام الأحزاب واليهود في ظروف قاسية جداً ضد قوات العدو المتفوقة عليهم تفوقاً ساحقاً، فصمدوا تجاه الخطر الداهم الذي يهددهم من خارج المدينة ومن داخلها.

ونجاح المسلمين وصمودهم جعل معنوياتهم بوضع ممتاز لم يسبق له مثيل من قبل.

لقد تخلصوا من الأحزاب، ويقي أمامهم بنو قريظة جيرانهم في المدينة الذين لم يرعوا حق الجار ولا حافظوا على العهد، وخانوا المسلمين في أشد أوقات محنتهم، فلا بد من تصفية الحساب معهم.

2 – المشركون

انسحب الأحزاب وقريش إلى ديارهم يحملون معهم كل معاني الفشل، فلم تستطع قريش القضاء على المسلمين، ولم تستطع القبائل الأخرى نهب أموال المسلمين، ولم يعودوا بأية فائدة يمكن أن تخفف عنهم ما بذلوه من جهد في السفر والحصار أيام الشتاء ومن مال صرفوه لإدامة قواتهم بالموارد والأرزاق قبل المعركة واثناءها وبعدها.

لقد أثر ذلك على معنويات المشركين، وجعلهم يخافون المسلمين كل الخوف.

3- اليهود

بقي اليهود من بني قريظة وحدهم بعد انسحاب الأحزاب، وبقيت معهم غدرتهم الشنيعة التي فضحت طواياهم، فأصبحوا كالمجرم الذي ثبتت إدانته فهو يرقب القصاص العادل .

لقد كانت معنوياتهم منحطة للغاية، إذ كانوا يتوقعون هجوم المسلمين عليهم و يعرفون نتيجة هذا الهجوم.

الهدف الحيوي

محاسبة الغادرين من اليهود على غدرهم بالمسلمين في أشد أوقاتهم حرجاً، ومحاسبة القبائل التي غدرت بدعاة المسلمين.

غزوة بني قريظة

1 – أسباب الغزوة


نکث بني قريظة لعهدهم مع المسلمين عند تجمع الأحزاب حول المدينة .

2 – قوات الطرفين

أ- المسلمون

ثلاثة آلاف بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم معهم ستة وثلاثون فارساً فقط.

ب- بنو قريظة

من 600 – 700 مقاتل بقيادة كعب بن أسد يعاونه حيي بن أخطب رأس اليهود الذين حشدوا الأحزاب وجمعوها حول المدينة .

3 – الهدف

القضاء على بني قريظة لنكتها بعهودها، مما جعل المسلمين مهددين بالإبادة.

4- الحوادث

عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صباح الليلة التي انسحب الأحزاب فيها الى ديارهم، وأمر أصحابه ظهر ذلك اليوم بالحركة إلى قريظة والإسراع بالإطباق على حصونهم بحيث لا يصلون العصر إلا هناك. وعلى الرغم من تعب المسلمين الشديد لبقائهم مدة طويلة محاصرين، وعلى الرغم من برودة الطقس، فقد أسرع المسلمون لتنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانجزوا تحشدهم حول حصون بني قريظة قبل أن يحل الظلام.

استمر الحصار خمساً وعشرين ليلة لم يقع خلالها إلا بعض المناوشات الطفيفة بالنبل والحجارة، كان من أثرها استشهاد احد المسلمين مصاباً برحى رمته بها امرأة يهودية من فوق سطح منزلها.

لم يجرؤ بنو قريظة على الخروج من حصونهم طيلة مدة الحصار، وكانوا مترددين لا يستقر رأيهم على شيء من شدة الخوف. طلب منهم قائدهم ان يعتنقوا الإسلام، فرفضوا؛ فطلب منهم الخروج للقتال، فرفضوا أيضا. وبقوا في حصونهم لا يفعلون شيئا.

وأخيراً أرسل اليهود يعرضون الخروج إلى (اذريعات) تاركين وراءهم، ما يملكونه؛ فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يسلموا بدون قيد أو شرط.

وعاد اليهود يطلبون التسليم على أن يحكم سعد بن معاذ بمصيرهم، وقد اختاروه لأنه سيد الأوس حلفائهم في الجاهلية، لعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل من حلفاء الأوس ما قبل من اليهود بني قينقاع حلفاء الخزرج.

وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بنزولهم على حكم سعد، وقبل سعد بأن يقوم بالتحكيم بين المسلمين من جهة واليهود من جهة أخرى بعد أن أخذ المواثيق على الطرفين أن يرضى كلاهما بقضائه. فلما أعطوه المواثيق، أمر بني قريظة أن ينزلوا من حصونهم وأن يضعوا السلاح، ففعلوا..

وكان حكم سعد فيهم: أن يُقتل المقاتلون، وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، لأن سعداً ذكر أن الأحزاب لو انتصرت بخيانة بني قريظة لكان مصير المسلمين الإبادة من الوجود (فجزاهم سعد بمثل ما عرّضوا المسلمين له).

لم تكن حرب بني قريظة حرب ميدان إنما كانت حرب أعصاب. فلم يستطع اليهود أن يتحملوا الحصار على الرغم من توفر المواد الغذائية لديهم وتوفر المياه والآبار ومناعة حصونهم وصعوبة اقتحامها، فآثروا التسليم على مكابدة الحصار.

والحق أن الموقف العسكري كان إلى جانبهم لتلك الأسباب كلها ولشدة تعب المسلمين ولبرودة الطقس، ولكن معنوياتهم المنحطة انهارت، فلم يقاوموا طويلا كما كان المؤمل.

وقُتل مقاتلو بني قريظة جميعاً ومعهم حيي بن أخطب الذي تزعّم حركة تحشيد الأحزاب ضد المسلمين، إلا ثلاثة رجال منهم أسلموا، ولم يقتل من الأطفال والنساء أحد عدا المرأة التي قتلت الشهيد المسلم برحاها، فقتلت بجرمها هذا.

سرية عبد الله بن عتيك

1 – الهدف

قتل أبي رافع بن أبي الحقيق اليهودي الذي حرض الأحزاب مع حيي بن أخطب، ثم فر إلى يهود خيبر ليتخلص من العقاب.

2 – الحوادث

بعد القضاء على بني قريظة، خرج من المدينة خمسة من الخزرج إلى خيبر، للقضاء على أبي رافع بن أبي الحقيق وإلقاء الرعب في قلوب يهود خيبر، حتى لا يعيدوا الدور الذي قام به اليهود الآخرون، وقد كانت هذه المفرزة بقيادة عبد الله بن عتيك.

وصل المسلمون خيبر ليلا، فأمر عبد الله بن عتيك أصحابه بالبقاء قريباً من الحصن حتى يستطلع لهم موضع بن أبي الحقيق، فلما وصل حصنه استطاع دخوله وكمن في اسطبل الحيوانات.

ولما آوى بن أبي الحقيق إلى فراشه وهدأت الأصوات والحركة، خرج عبد الله وأخذ مفاتيح الحصن من موضعها الذي كانت فيه، ثم ذهب إلى غرفة ابن

أبي الحقيق، فناداه ليعرف مكانه من صوته، لأن الظلام كان يغمر الغرفة التي كان بها ابن أبي الحقيق، ثم هجم بالسيف عليه حتى قضى عليه، وانسحب إلى أصحابه بعد أن سقط من الدرج وانكسرت رجله.

وعاد المسلمون الى المدينة وقد ازالوا من طريق الدعوة عدواً لدوداً، وتسامع الناس بعاقبة من يؤلب الناس ضد المسلمين، مما زاد هيبة المسلمين في النفوس وجعلهم يسيطرون سيطرة تامة على المدينة من كافة الوجوه، فلم يبق فيها أي صوت لليهود أو المنافقين.

غزوة بني لحيان

1 – الهدف

أ) عقاب بني لحيان الذين غدروا بدعاة المسلمين عند ماء الرجيع قبل عامين خلوا وهم ستة من كبار الصحابة: اغتالت أربعة منهم وباعت الاثنين الباقيين لقريش، فضربت قريش عنق أحدهما وصلبت الثاني.

ب) التأثير على معنويات قريش والقبائل الأخرى.

2 – الحوادث

شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بمحاولة قريش التحشد وحلفائها لغزو المسلمين، ففكر بالحركة إليهم للتأثير على معنويات قريش والقبائل الأخرى والتعرض ببني لحيان الذين غدروا بدعاة المسلمين.

أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يريد الشام حتى يستطيع مباغتة بني لحيان دون أن يعرفوا بحركته إليهم، فتحرك بقواته شمالاً، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار حركته إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعاً في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان بغران، ولكن بني لحيان فروا إلى رؤوس الجبال، واستطاعوا النجاة بأرواحهم وأموالهم.

عند ذاك ترك الرسول صلى الله عليه وسلم القسم الأكبر من قواته في (غران) وسار على رأس مائتي راكب باتجاه مكة حتى وصل (عسفان) شمال مكة للتأثير على معنويات قريش، فلم تخرج قريش للقائه. ثم عاد المسلمون إلى المدينة متحلمين شدة الحر، بعد أن أثروا على معنويات القبائل وجعلوهم يخافون المسلمين أشد الخوف.

غزوة ذي قَرَد

أ – الهدف

أ ) مطاردة عيينة بن حصن مع جماعة من غطفان لإعادة إبل المسلمين التي انتهبها المشركون.

ب – الحوادث

أغار عيينة بن حصن الفزاري على أطراف المدينة، فوجد هناك بعض اللقاح ترعى بحراسه مسلم وامرأته، فقتل عيينة وأصحابه الرجل وساقوا الإبل واحتملوا المرأة.

ولكن سلمة بن عمرو بن الأكوع بصر بالقوم وقد اقتادوا الإبل، فأنذر المسلمين وقام بمطاردة عيينة وأصحابه وحده، حتى لحق به المسلمون الذين استطاعوا تخليص الإبل والمرأة المسلمة بعد أن وصلوا بمطاردتهم مـــــاء (بذي قرد).

وجاء من يخبر المسلمين أن عيينة وأصحابه وصلوا موضعاً بعيداً عن (ذي قرد) فنحروا لهم جزوراً . فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غباراً، فتركوا جزورهم في محلها وهربوا بسرعة، لأنهم ظنوا أن المسلمين اقتربوا من مواضعهم.

ولم يكد هؤلاء الأعراب يصدقون انهم يستطيعون النجاة بأنفسهم ! ! !

دروس من غزوات محاسبة الغادرين

1 – الوقت

انسحبت الأحزاب عن المدينة، وعاد المسلمون إلى ديارهم صباح ليلة الانسحاب، وأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الإنذاري للحركة إلى بني قريظة ظهر ذلك اليوم نفسه، على ألا يصلي المسلمون العصر إلا في ديار بني قريظة.

لقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب فكره أهمية الوقت في الحصول على نتائج باهرة في القتال، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطأ محركته هذه، لاستفـاد اليهود من الوقت في الاستعانة بحلفائهم، أو إقناع اليهود الآخرين بمعاونتهم، أو التشبث بالحصول على قوات من القبائل لتدعيم قوتهم، ولكان بإمكانهم إكمال قضاياهم الإدارية التي يحتاجونها في القتال، حتى يستطيعوا الصمود في حصارهم أطول مدة ممكنة.

ولكن إسراع الرسول صلى الله عليه وسلم بحركة قواته لتطويقهم، حالت بين اليهود وبين كل ذلك، إذ لم يكن اليهود يعلمون بالموعد الأكيد لانسحاب الأحزاب ليسبقوا النظر في إعداد كافة متطلبات القتال المتوقع ضد المسلمين.

بل إنّ حركة المسلمين السريعة لم تترك لهم الوقت الكافي لتنظيم خطة دفاعية عن حصونهم، كما لم تترك لهم الوقت الكافي لتنظيم أي خطة على الاطلاق، فقد ظهر لنا من سير الحوادث في غزوة بني قريظة أن اليهود لم يفعلوا شيئاً، وكانوا مترددين في كل شيء، وأكثر من ذلك فإن حركة المسلمين مبكراً شلت معنويات اليهود وقضت على روح المقاومة فيهم، فلم يستطيعوا أن يستفيدوا من المحسنات العسكرية التي كانت بجانبهم والتي كان بإمكانهم – لو أحسنوا التصرف – الاستفادة من هذه المحسنات لكي يقاوموا المسلمين وقتاً غير قصير.

حصونهم قوية ومنيعة وعددهم كبير، وسلاحهم وفير، والأرزاق والماء متيسران، كل ذلك يساعدهم على الصمود، ولكن هذه المحسنات العسكرية التي بجانب اليهود لا تفيد شيئاً ما دامت معنوياتهم منحطة تماماً، ولولا استفادة الرسول صلى الله عليه وسلم من الوقت لتحسنت معنويات اليهود ولاستطاعوا أن يقوموا بدور أكثر حزماً من الدور الذي قاموا به أثناء حصارهم.

ومما يزيد في قيمة حرص المسلمين على المحافظة على الوقت، أن ظروفهم لم تكن حسنة بعد انسحاب الأحزاب.

لقد كانوا منهوكي القوى لسهرهم على حراسة مواضعهم مدة حوالي شهر في موقف عصيب يحطم أعصاب الشجعان.

وكان الطقس بارداً وقد تحملوا البرد في العراء وقتاً طويلاً أثناء حصارهم، فلما انسحبت الأحزاب آن لهم أن ينالوا بعض الدفء في بيوتهم القريبة.

وكانت قضاياهم الإدارية بشكل لا يحسدون عليه، إذ ما هي إمكانيات إعاشتهم مثلا وهي أهم ما يديم قوة المقاتلين؟ خاصة وأن الجندي يمشي على بطنه كما يقولون.

إن عدم اكتراث المسلمين بكل هذه المشاكل لغرض الإسراع بتطويق حصون بني قريظة يدعو إلى الإعجاب والتقدير.

2 – المباغتة

تكون المباغتة بالوقت والمكان والأسلوب.

المباغتة بالمكان أن تقوم بحركة من مكان لا يتوقعه العدو، والمباغتة بالزمان أن تقوم بحركة في وقت لا يتوقعه العدو، والمباغتة بالأسلوب أن تقوم بالقتال بأسلوب جديد أو بسلاح جديد .

والقائد العبقري هو الذي يحاول ان يباغت خصمه حتى يقضي عليه ماديــــاً ومعنوياً، لأن المباغتة الناجحة تشل حركة العدو وتقضي عليه.

لقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم كل أساليب المباغتة؛ فقد رأينا كيف باغت الأحزاب بأسلوب جديد في القتال هو حفر الخندق، كما رأينا كيف باغت قريشاً بالقتال بأسلوب الصفوف.

وفي غزوة بني قريظة باغت اليهود بالزمان في حركته بسرعة لا يتوقعونها، فشلّ من معنوياتهم واحتفظ بالمبادأة بيده حتى نهاية المعركة.

وفي غزوة بني لحيان تحرك شمالاً باتجاه الشام حتى لا يعرف بنو لحيان وقريش اتجاه حركته الحقيقية، وبذلك باغتهم بالمكان .

إن المباغتة أهم مبادئ القتال قديماً وحديثاً، وقد حرص المسلمون على تطبيق هذا المبدأ في أكثر غزواتهم، مما ساعدهم على النصر.

3- القصاص

القصاص العادل الذي أصاب بني قريظة بعد تسليمهم، يقره كل إنسان واقعي سليم التفكير والإنصاف.

لقد طعن هؤلاء اليهود المسلمين في أحرج وقت من أوقات محنتهم، ولو لم يكن هناك عهد بينهم وبين المسلمين لهان الخطب ولوجدنا بعض العذر لهم، ولكن أي عذر لهم وقد خانوا العهد في مثل تلك الظروف؟ وأحب أن أتساءل: لو نجح الأحزاب في غزوة الخندق، فماذا كانوا يفعلون بالمسلمين؟ ألم تكن عاقبة المسلمين الإبادة والتمثيل؟ فلماذا لا يبيدون الذين حاولوا معاونة أعدائهم على إبادتهم؟ لقد أفسح المسلمون المجال أمام بني قينقاع وبني النضير من اليهود للجلاء إلى خيبر أو إلى ضواحي الشام، فماذا كانت النتيجة؟ أثار هؤلاء اليهود الأحزاب وحشدوهم أمام خندق المدينة للقضاء على المسلمين.

ومع ذلك فالموقف جد مختلف بين هؤلاء اليهود وبين يهود بني قريظة، إذ أن خيانة هؤلاء ونكثهم عهودهم كان في أحرج الأوقات وأشدها خطورة على مستقبل الإسلام والمسلمين.

فهل يبقي المسلمون على بني قريظة ليقوموا بدور أسلافهم بني قينقاع وبني النضير؟ ..

لقد كان بإمكان هؤلاء اليهود أن يتخلصوا من القتل لو أعلنوا إسلامهم كما فعل ثلاثة رجال منهم. فنجوا بحياتهم وأموالهم.

ولم يقض المسلمون بالقتل إلا على الرجال الذين قاتلوهم فعلا بعد أن خانوا عهودهم وعرضوا المسلمين للإبادة، أما الأطفال والنساء فلم يصابوا بأذى، كما أن الذين ثبتوا على عهودهم من اليهود لم يصابوا بسوء .

والمرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة هي التي قتلت مسلماً بقذفه بالرحى من فوق سطحها، وإنما كان قتلها على جنايتها.

أما قتل أبي رافع بن أبي الحقيق، فلأنه أحد رؤوس اليهود الذين حرضوا الأحزاب، وقتله عبرة لغيره من الذين يحاولون محاولته في المستقبل، وحتى قوانين الحرب الدولية الحديثة تجيز القتل في مثل هذا الموقف، فهذا اليهودي كان من بني النضير الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم وتغلب عليهم واضطرهم إلى الاستسلام، ثم سمح لهم بالرحيل بعيداً عن المدينة على ألا يعودوا الى قتاله أو التحريض عليه، فإذا نكث هذا بالعهد وحرض الأحزاب على تطويق المدينة، وحرض بني قريظة على نكث عهدها مع المسلمين – إذا كانت هذه أعماله بعد أن أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه بعد استسلامهم، فمن حق المسلمين أن يقتلوه كمجرم حرب لا كمحارب شريف.

لقد كان قصاص المسلمين من اليهود ضرورياً وعادلاً .

4- العقيدة

ظهر لنا في هذه الفترة من كفاح الرسول صلى الله عليه وسلم، أثر العقيدة في توحيد الصفوف للعمل للمصلحة العامة وحدها، وأثرها في اندفاع المـسلمين كل يسابق أخاه إلى الشهادة، وأثرها في جعل المسلم يحاسب نفسه على ما اقترفه من ذنب لا يعلم به أحد غيره من الناس.

طلبت بنو قريظة من المسلمين حضور أبي لبابة بن عبد المنذر ليستشيروه، وقد كان أبو لبابة حليفاً لهم في الجاهلية وصديقاً شريفاً لا يشكون في إخلاصه، فأرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فاستقبله الرجال والنساء والأطفال بالبكاء والعويل، فأثر ذلك على نفسيته كإنسان. واستشاره اليهود: أينزلون على حكم محمد ؟ … فقال لهم : نعم . وأشار إلى حنقه كأنه ينبههم الى أن مصيرهم الذبح.

ولكن أبا لبابة أدرك لفوره أنه خان الرسول صلى الله عليه وسلم (بإشارته) تلك، وأنه خضع لشعوره لا لعقيدته في عمله هذا اللاشعوري، فمضى هائما على وجهه حتى يتوب الله عليه.

وبقي على حاله هذا حتى تاب الله عليه.

لم يعرف أحد (بإشارة) أبي لبابة إلى حلقه حين استشاره اليهود بالتسليم، ولم تكن إشارته هذه نتيجة تدبر وتفكير، ومع ذلك لم يستر أبو لبابة فعلته هذه وأعلنها للناس جميعاً وعاقب نفسه بنفسه عقاباً صارماً، مما يدل على عقيدته الراسخة وإيمانه العظيم.

وحكم سعد بن معاذ على بني قريظة بأن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسّم الأموال يدل على عقيدته الراسخة أيضاً .

لقد كان سعد سيد الأوس حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وقد توقع اليهود أن تنفعهم هذه الصلة القوية عند الحكم عليهم، كما توقع الأوس أيضاً أن يتساهل سعد مع أصدقائهم الأقدمين، بل استقبله الأوس حين قدومه للحكم هاتفين: يا أبا عمرو ! أحسن في مواليك.

وقد أحسنت الخزرج قبل ذلك في مواليها اليهود عندما استسلموا للمسلمين، فلماذا لا يحسن الأوس إلى مواليهم مثلما أحسن الخزرج؟

ولكنّ سعداً صاح بقومه وقد أكثروا عليه الرجاء: “وقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم”.

وأصدر سعد حكمه العادل غير متأثر بالأهواء بل بعقيدته الراسخة فقط وإيمانه العظيم.

وماذا يعني دخول عبد الله بن عتيك وحده في الحصن الذي يسكنه اليهودي

أبو رافع بن أبي الحقيق في وسط اهله وعشيرته، وتعريض عبدالله نفسه للخطر الداهم بينما ترك أصحابه خارج الحصن في أمان؟؟

هل يعني هذا العمل إلا استئثار القائد لنفسه بالخطر دون أصحابه طمعاً بالشهادة؛ وقد كان بإمكانه تكليف أحد أصحابه بهذا الواجب، ولكنه آثر ان يقوم بنفسه بهذا العمل كله، فنجح في القضاء على ابن أبي الحقيق، والتحق بأصحابه ليلا بعد ان كسرت رجله أثناء نزوله من سطح الحصن.

هذه الأمثلة التي ظهرت لنا في هذه الفترة من حياة المسلمين. تدل بوضوح على رسوخ العقيدة في نفوسهم، مما جعلهم يستهينون بكل شيء في سبيل عقيدتهم .

5 – القضايا الإدارية

أ ) الغنائم

قسمت غنائم بني قريظة على المسلمين: سهم للرجال وثلاثة أسهم للفارس منها سهمان للفرس، وذلك تشجيعاً للإكثار من الخيل لفائدتها الكبيرة في القتال، وبقي الخمس للرسول لتوزيعه على المحتاجين، ولتأمين إعاشة وركوب وسلاح المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقونه على انفسهم في الجهاد .

لقد تحسنت الحالة الاقتصادية للمسلمين بهذه الغنيمة، فاستطاعوا الاستغناء عن بعضها لشراء الخيل والأسلحة من نجد استعداداً للمحركات المقبلة.

ب ) الماء

عندما وصل المسلمون إلى حصون بني قريظة، سيطروا على بئر تعود لبني قريظة بسرعة خاطفة للاستفادة من مائها في أيام الحصار.

ولولا سرعة المسلمين في الاستيلاء على هذه البئر، لكان من المؤكد ان تقوم قريظة بتدميرها حتى تحرم المسلمين من مياهها الضرورية لهم في القتال.

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة