بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد.
ففي سبيل إبراز هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ميدان قلّما تتناوله الأقلام وكثيرا ما يجهله المسلمون، نتناول في سلسلة جديدة أبرز الاقتباسات الملهمة عن قيادة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية، استنادا لكتاب ألفه الجنرال العراقي محمود شيت خطاب والذي خلص فيه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم قائد في التاريخ قد اجتمعت فيه لوحده جميع الصفات القيادية المهيبة، بما في ذلك في الميدان العسكري.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه:
“فكرت في وضع هذا الكتاب، بعد ما قرأت كثيراً من المؤلفات العسكرية الباحثة في تاريخ حروب القادة العظام، الذين لمعت أسماؤهم قديماً وحديثاً.
لقد أبرزت تلك المؤلفات بكل وضوح أعمال اولئك القادة، ووصفت معاركهم بتسلسل منطقي سهل، ووضحت تلك المعارك بالخرائط والمخططات والأشكال، وأظهرت الدروس المفيدة منها، فأضفت بذلك كاله الخلود على حياة أولئك الرجال .
وعدت لأقارن بين هذا الأسلوب في البحث، وبين أسلوب المؤرخين عندنا في الحديث عن معارك قادة المسلمين، فوجدت كيف أضاء الأسلوب الأول معالم الطريق للباحثين، وحقق قيمة جديدة لأعمال بعض القادة، بينما طمس الأسلوب الثاني أعمالاً خالدة تستحق أعظم التقدير والإعجاب .
لقد قرأت أكثر كتب السيرة بإمعان، فوجدت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية ذات قيمة لتاريخ الحرب لا تعادلها قيمة أخرى لأي قائد قديم أو حديث، غير أنها لم تبحث بأسلوب حديث من عسكري مختص بإمكانه معرفة نواحي العظمة الحقيقية فيها، وإظهار تلك النواحي للعيان، فبقيت الناحية العسكرية من حياة الرسول غامضة حتى اليوم .
تحدث مؤرخو السيرة عن معارك الرسول صلى الله عليه وسلم بإسهاب أو باقتضاب، ومع ذلك فإن الباحث يخرج من دراسة كل معركة دون أن يلم بكل تفاصيلها ووقائعها، ويعود ليسأل نفسه: ما هو موقف الطرفين قبل المعركة ؟ كيف جرى القتال ؟
ما هي الدروس المستنبطة من المعركة ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الحيوية.
إن وصف معارك القواد المسلمين وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب جعل تاريخ الحرب الحديث يورد أمثلة من أعماق القواد غير المسلمين، كهنيبال وقيصر ونابليون ومولتكه .. الخ . ولا يورد أمثلة من أعمال القواد المسلمين كالرسول وخالد وسعد بن ابي وقاص … الخ، بينما يدرس هذا التاريخ للمسلمين وفي بلاد المسلمين !!..
إن سبب ذلك هو ( جناية ) الأسلوب، هذه الجناية التي جعلتني أفكر في تأليف هذا الكتاب عن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، متوخياً تنسيق المعلومات التي جاءت في كتب السيرة بأسلوب علمي بسيط، تطرقت فيه إلى الموقف العام للطرفين قبل المعركة، وأهداف المعركة، وقوات الطرفين، وسير الحوادث قبل القتال وأثناءه وبعده، ونتائج المعركة ودروسها المفيدة، تلك الدروس التي لم تقتصر على أعمال الرسول فحسب، بل أظهرت أعمال المشركين أيضاً؛ وحاولت إيضاح كل ذلك بالخرائط والمخططات والأشكال، لمعرفة مواقع المعركة وأسلوبها وأسلحتها الغريبة عنا الآن؛ وبهذا الإيضاح أمكن أن يعيش القارىء في جو المعركة الأصيل، ويطلع على تفاصيلها، ليحصل من ذلك على معلومات وافية عن المعركة من كافة الوجوه” .
شبهات والرد عليها
يقول مؤلف الكتاب:” ولكنني أغفلت ذكر الحوادث التي لا يمكن أن تحدث في الحرب فعلا، تلك الحوادث التي يرددها بعض المؤرخين ليثبتوا للناس أن انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالخوارق غير الاعتيادية بالدرجة الأولى، لا بتطبيقه مبادئ الحرب، ومن الغريب أنهم يعتبرون ذلك من مظاهر الإيمان برسالة النبي .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتصر بالخوارق، فما قيمته كقائد ؟ وكيف يحتذي المسلمون بسيرته وقد ذهبت الخوارق وبقي الواقع المرير ؟
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم واقعياً بعيداً عن الخيال، وكان إذا أراد شيئاً هيا له أسبابه .
ولو اطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حشره بعض المؤرخين من الخوارق في سيرته، لما رضي ذلك، لأن الإسلام دين المنطق والعقل، ومعجزته الخالدة هي أنه الفطرة السليمة، وكان الرسول لا يرضى أن تنسب اليه معجزة غير القرآن،
ويحرص على إفهام الناس انه شر مثلهم ! قال تعالى : ﴿قل إنما انا بشر مثلكم يوحى الي أنهما إلهكم إله واحد ﴾، وقال سبحانه : ﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً﴾… وروى مسلم في صحيحه : “إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أنا بشر “.
لقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بكل مبادئ الحرب المعروفة، إضافة إلى مزاياه الشخصية الأخرى في القيادة، هذا انتصر على أعدائه، ولو أغفل شيئاً من الحذر والحيطة والاستعداد، لتبدل الحال غير الحال .
لماذا كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ؟ ولماذا كان يأخذ بمبدأ ( الحرب خدعة) ؟
ماذا كان يحدث لو تردد قبل معركة بدر، عندما رأى المشركين متفوقين على أصحابه بالعدد والعُدد ؟
ماذا كان يحدث لو استسلم لليأس في معركة أحد بعد أن طوقته قوات المشركين المتفوقة من كل جانب ؟
ماذا كان يحدث لو ضعفت مقاومته للأحزاب في غزوة الخندق، خاصة بعد خيانة اليهود، حين أصبح مهدداً من خارج المدينة ومن داخلها ؟
ماذا كان يحدث لو لم يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم مع عشرة فقط من آل بيته والمهاجرين بعد فرار المسلمين في غزوة حنين ؟
كيف نفسر إصابة الرسول صلى الله عليه وسلم يخروح خطرة في معركة ( أحد ) عندما خالف الرماة أمره وتركوا مواضعهم لجمع الغنائم، فخسر سبعين من أبطال المسلمين في هذه المعركة ؟
وأي استعدادات بلغت درجة من الدقة في التفاصيل، ما بلغته استعدادات. الرسول صلى الله عليه وسلم لإحضار جيش العسرة ؟
ولماذا تصلي طائفة من المسلمين في ساعات القتال، وتأخذ طائفة أخرى أسلحتها حذراً من مباغتة العدو لهم ؟
لماذا كل هذا الحذر الشديد والاستعدادات الدقيقة، إذا كان انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم بالخوارق غير الاعتيادية لا بالأعمال الاعتيادية ؟!
إن النصر من عند الله، ما في ذلك شك، ولكن الله لا يهب نصره لمن لا بعد كافة متطلبات القتال .
إن المسلم الصحيح، هو الذي يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم حق قدره، فيعترف بان كفاءة الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً ممتازاً، وكفاءة أصحابه جنوداً ممتازين، هي التي أمنت لهم النصر العظيم. أما أن نحشر الخوارق التي لا تحدث في الحرب أبداً، ونجعلها السبب المباشر لانتصار المسلمين، فذلك يجعل هذا النصر لا قيمة له من الناحية العسكرية، بالإضافة الى أن ذلك غير منطقي وغير معقول .
إن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم – ومنها العسكرية – سنة متبعة في كل زمان ومكان، فهل يبقى أتباعه ينتظرون الخوارق لينتصروا على أعدائهم، أم يعدون ما استطاعوا من قوة، كما قرر القرآن، لينالوا هذا النصر ؟
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية ، تثبت بشكل جازم لا يتطرق إليه الشك، بأن انتصاره كان لشجاعته الشخصية وسيطرته على أعصابه في أحلك المواقف، و لقراراته السريعة الجازمة في أخطر الظروف، ولعزمه الأكيد على التشبث بأسباب النصر، ولتطبيقه كل مبادىء الحرب المعروفة في كل معاركه ـ تلك العوامل الشخصية التي جعلته يتفوق على أعدائه في الميدان، ولو لم تكن تلك الصفات الشخصية فيه لما كتب له النصر “.
بماذا يتفرد النبي صلى الله عليه وسلم في قيادته؟
يقول مؤلف الكتاب:”يمتاز الرسول صلى الله عليه وسلم عن غيره من القادة في كل زمان ومكان بميزتين مهمتين: الأولى أنه كان قائداً عصامياً، والثانية ان معاركه كانت لغرض حماية حرية نشر الإسلام ولتوطيد أركان السلام لا للعدوان والاغتصاب والاستغلال. أن غيره من القادة العظام وجدوا أمما تؤيدهم وقوات جاهزة تساندهم؛ ولكن الرسول لم تكن له أمة تؤيده، ولا قوات تسانده، فعمل على نشر دعوته، وتحمل صابراً أعنف المشقات والصعاب، حتى كون له قوة بالتدريج ذات عقيدة واحدة وهدف واحد .
يمكن تقسيم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية إلى أربعة أدوار:
دور التحشد ، ودور الدفاع عن العقيدة، ودور الهجوم، ودور التكامل.
أما دور التحشد: فمن بعثته إلى هجرته إلى المدينة واستقراره هناك، هذا الدور اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على الحرب الكلامية، يبشر وينذر ويحاول جاهداً نشر الإسلام، وبذلك كون الخميرة الأولى لقوات المسلمين، وحشدهم في المدينة بالهجرة إليها، وعاهد بعض اليهود ليأمن جانبهم عند بدء الصراع .
أما دور الدفاع عن العقيدة: فمن بدء الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال سراياه وقواته للقتال إلى انسحاب الأحزاب عن المدينة بعد غزوة الخندق، وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين، فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم ضد أعدائهم الأقوياء.
أما دور الهجوم: فهو من بعد غزوة الخندق إلى بعد غزوة حنين، وبهذا الدور انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في بلاد العرب، فاستطاعوا سحق كل قوة تعرضت للاسلام .
والدور الرابع هو دور التكامل: وهو من بعد غزوة حنين إلى أن التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فقد تكاملت قوات المسلمين بهذا الدور، فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد متنفساً لها خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة تبوك إيذاناً بمولد الامبراطورية الإسلامية .
بهذا التطور المنطقي، تدرج هذا القائد العصامي بقواته من الضعف إلى القوة، ومن الدفاع إلى الهجوم، وبذلك برز كل قائد في كل أدوار التاريخ، لأنه أوجد قوة كبيرة ذات عقيدة واحدة وهدف واحد من لا شيء .
تلك هي الميزة الأولى للقائد العصامي محمد صلى الله عليه وسلم، والميزة الثانية لقيادته:
معاركه كانت حرب فروسية بكل معنى الكلمة، الغرض منها حماية حرية نشر الإسلام وتوليد أركان الإسلام، فلم ينقض عهداً، ولم يمثل بعدو، ولم يقتل ضعيفاً، ولم يقاتل غير المحاربين. لذلك فان إطلاق تعبير ( الفتح الإسلامي على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) ليس صحيحاً، بل يجب أن نطلق تعبير (انتشار الاسلام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم)، لأنه لم يفتح بلداً لغاية الفتح، بل لغرض حماية حرية نشر الإسلام فيه وتوطيد أركان السلام في أرجائه ولا عجب في ذلك. لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم قائداً ورسولاً .
وربما يتبادر إلى الأذهان، أن القيادة في العصور الغابرة كانت سهلة التكاليف لقلة عدد القوات حينذاك بالنسبة إلى ضخامة عددها وكثرة أسلحتها ووسائطها في الجيوش الحديثة، ولكن العكس هو الصحيح .
إن مهمة القائد في العصور الغابرة كانت أصعب من مهمته في العصر الحديث، لأن سيطرة القائد ومزاياه الشخصية، كانت العامل الحاسم في الحروب القديمة، بينما يسيطر القائد في الحرب الحديثة على قواته الكبيرة بمعاونة عدد ضخم من ضباط الركن الذين يعاونونه في مهمته ويراقبون تنفيذ أوامره في الوقت والمحل المطلوبين، كما يسيطر القائد على قواته بوسائط المواصلات الداخلية الدقيقة من أجهزة لاسلكية وسلكية ورادار وطيارات ووسائط آلية .
بل إن هيئات الركن مسؤولة حتى عن تهيئة خطة القتال قبل وقت مناسب، ولا يقوم القائد الا بمهمة الإشراف على التنفيذ .
إن القائد في الحرب الحديثة يحتاج الى العقل وحده، والقائد في الحرب القديمة يحتاج الى العقل والشجاعة.