كَاتِبُ وَحْي الرَّسُولِ وَأَحَدُ عَبَادِرَةِ الْمُسْلِمِينَ
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ؛ يَرْوِي عَنْ أُبَيْ بْنِ كَعْبٍ ، وَيَسْأَلُهُ عَنِ النَّوَازِلِ ، وَيَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ فِي الْمُعْضلَاتِ ..
هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمَلَأ الْأَعْلَى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ ؟!
مَنْ هَذَا الَّذِي أُمِرَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ؟!
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ .
مَنْ هَذَا الَّذِي كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدْعُوهُ بِسَيِّدِ المُسْلِمِينَ ؛ فَلَا يُنَازِعُهُ في هَذَا الشَّرَفِ أَحَدٌ ؟!
إِنَّهُ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ ؛ كَاتِبُ وَحْيِ رسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
وَأَحَدُ عَبَاقِرَةِ الْمُسْلِمِينَ … وَعَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِهِمُ الْمُبرِّزِينَ …
أَسْلَمَ أُبيُّ بْنُ كَعْبٍ حِينَ وَفَد عَلَى يَثْرِبَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَوَّلُ مبشر بالإسلام، لكن أنها لم يَكُن بحاجة إِلَى دَاعٍ يَدْعُوهُ إِلَى دِينِ اللَّهِ ..
أَوْ مُبَشِّرِ يُبَشِّرُهُ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه .
ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ النَّادِرِينَ الَّذِينَ حَذَقُوا الْكِتَابَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَأَشْبَعُوا الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَىٰ بَحْثًا وَدَرْسًا ؛
فَعَرَفَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يُنَبَّاً . عَرَفَهُ بِاسْمِهِ الْمُحَدَّدِ .. وَصِفَاتِهِ الْمُمَيِّزَةِ الدَّقِيقَةِ .
وَعَلَامَاتِهِ الْفَارِقَةِ الْوَاضِحَةِ .. فَكَانَ أَشَدَّ مَعْرِفَةٌ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِ …
وَلَمَّا خَرَجَ النَّفَرُ السَّبْعُونَ السَّابِقُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ يَثْرِبَ إِلَىٰ مَكَّةَ ليُبَايِعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ ؛ كَانَ أَتِيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي طَلِيعَةِ المبايعين . ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ حِينَ قَدِمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ ؛ اتَّخَذَ أَبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَاتِبًا لَهُ . فَصَدَرَتْ عُهُودُ النَّبِيِّ الْكَرِيم الله وَعُقُودُهُ وَأُعْطِيَاتُه وَكُتُبُهُ ؛ مُذَيَّلَةٌ بِاسْمِ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ . حَيْثُ كَانَ يَكْتُبُ فِي ذَيْلِ كُلِّ كِتَابٍ :
شَهِدَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، وَكَتَبَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ثُمَّ دَرَجَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَىٰ أَنْ يُوَقِّعُوا مَا يَكْتُبُونَهُ بِقَوْلِهِمْ :
كَتَبَهُ فُلَانٌ » …
وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَأْسْيا بِأُبيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ . ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ قَلَّدَ أُتِيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَفًا يَتَضَاءَلُ عِنْدَهُ كُلُّ شَرَفٍ ، وَأَوْلَاهُ ثِقَةٌ تَتَصَاغَرُ أَمَامَهَا كُلُّ ثِقَةٍ .. وَذَلِكَ حِينَ ائتَمَنَهُ عَلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ؛ حَيْثُ جَعَلَهُ أَحَدَ كُتَّابِ أ لْوَحْي .. فَأُتِيحَ لَهُ أَنْ يَتَلَقَّى الْكِتَابَ الْعَزِيزِ غَضًا طَرِيًّا مِنْ فَمِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ تَذَوَّقَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ حَلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ؛ مَا لَمْ يَتَذَوَّقْهُ إِلَّا النَّفَرُ
ا لقَلِيلُ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ الأعْظَم على الله.
فَقَدْ رَأَى فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ رَوْعَةِ الْبَيَانِ ، وَقُوَّةِ الْإِعْجَازِ ، وَسُمُو التَوْجِيهِ ، وَغَزَارَةِ الْمَعَانِي مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي دَأَبَ عَلَى قِعَتِهَا مِنْ قَبْلُ .
لِذَلِكَ أَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ اللهِ بِقَلْبِهِ وَكله …
وَانْقَطَعَ لَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ …
حَتَّى أَصْبَحَ شُغْلَهُ الشَّاغِلَ … وَعَمَلَهُ الْمُتَوَاصِلَ … وَرَاحَةً نَفْسِهِ وَمُنْعَةَ فُؤَادِهِ . فَكَانَ يَكْتُبُهُ وَحْيَا ؛ حِيْنَ يَنْزِلُ بِهِ الرُّوحُ الْأَمين عَلَى فُؤَادِ مُحَمَّدٍ سَيْدِ الْمُرْسَلِينَ.
وَكَانَ يَتْلُوهُ خَالِيًافَلَا يَقْطَعُهُ عَنْهُ إِلَّا شُغْلٌ شَاغِلٌ لَا مَنْدُوحَة عَنْهُ ،
أَوْ نَوْمٌ غَيْرُ مُتَوَاصِلٍ لَا بُدَّ مِنْهُ … وَكَانَ يَتَدَبَّرُهُ مُتَعَلِّمًا وَمُتَفَقِّها
وَيَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِهِ مُعَلِّمًا ، وَمُفَقِّها .
…
حَتَّى غَدَا مِنْ أَوْثَقِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ : أَرْحَمُ الْمُسْلِمِينَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ
وَأَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ .
…
وَأَقْضَاهُمْ بَيْنَ الْمُتَقَاضِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَعْرَفُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
…
وَأَعْلَمُهُمْ بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصَدَقُهُمْ لَهْجَةٌ أَبُو ذَرِّ الْغِفَارِي
وَآمَنْهُمْ عَلَى أُمَّةٍ مُحَمَّدٍ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاح
وَأَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ …
وَقَدْ خَطَبَ الْفَارُوقُ ذَاتَ يَوْمِ بِالْجَابِيَة فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ …
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ ؛ فَلْيَأْتِ أُتِيَّ بْنَ كَعْبٍ .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ ؛ فَلْيَأْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ ؛ فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَالِ ؛ فَلْيَأْتِنِي .
فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَلَيْهِ وَالِيَّا
وَلَهُ قَاسِما …
وَقَدْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى أُتِي بْنِ كَعْبٍ بِمَكْرُمَةٍ ؛ هَزَّتْ فُؤَادَهُ شُكْرًا لِلَّهِ
وَحَمْدًا لَهُ …
وَأَسَالَتْ عَبَرَاتِهِ فَرْحَةٌ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ ، وَابْتِهَاجًا بِمَا أَغْدَقِهِ عَلَيْهِ وَخَصَّهُ بِهِ
مِنْ دُونِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ الله .
ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيِّ الْكَرِيمَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ ؛ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ
عَلَى أُبي بْنِ كَعْبٍ وَقَالَ :
( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يَا أُبَيُّ )
فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أُتِي ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ … وَقَالَ : آاللَّهُ سَمَّاني لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟!
أَو ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟!! .
فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( نَعَمْ … إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّاكَ لِي ؛ يَا أُتِي ) …
فَاسْتَطَارَ أُبي فَرَحًا . وَجَعَلَتْ عَيْنَاهُ تَفِيضَانِ مِنَ الدَّمْعِ …
وَطَفِقَ لِسَانُهُ يَتَلَجْلَجُ بِحَمْدِ اللَّهِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ . وَفِي ذَاتِ مَرَّةٍ أَرَادَ الرَّسُولُ له أَنْ يَخْتَبِرَ أُتِيَّ بْنَ كَعْبٍ ؛ فَسَأَلَهُ قَائِلًا :
( أَيُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ يَا أُبَيُّ ؟ ) .
فَقَالَ : أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾
فَسُرَّ الرَّسُولُ الكَرِيمُ الله بِإِجَابَتِهِ ، وَضَرَبَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى صَدْرِهِ ، وَقَالَ لَهُ :
( لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ … لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ ) …
* *
وَقَدْ بَلَغَ مِنْ مَكَانَةِ أُتِي بْنِ كَعْبٍ فِي الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ أَحَدَ السِّتَّةِ الَّذِينَ يُفْتُونَ ، وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ الله حَيَّ قَائِمٌ بَيْنَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ . فَلَقَدْ كَانَ يُفْتِي عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ هُمْ :
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ …
وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ …
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ …
وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ هُمْ .
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ …
وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ …
وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ..
وَكَمَا كَانَ أُتِي بْنُ كَعْبٍ نَجْمًا مُتَأَلِّقًا فِي أُفُقِ الْعِلْمِ ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَمًا سَبَّاقًا حَلَبَةِ التَّقَى وَالصَّلَاحِ ، وَنبْرَاسًا فَذًا فِي مَجَالَاتِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ . مِنْ ذَلِكَ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا ؛ هَلْ لَنَا بِهَا شَيْءٌ؟
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : (إِنَّهَا كَفَّارَاتُ ذُنُوبِكُمْ ) .
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ أُتِي بْن كَعْب ، وَقَالَ :
وَإِنْ قَلَّتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
( وَإِنْ كَانَتْ شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا ) ..
فَدَعَا أُتِي عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا تُفَارِقَهُ الْحُمَّى حَتَّى يَمُوتَ … وَأَلَّا يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجٌ وَلَا عُمْرَةٍ …
وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ .
فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا وَجَدَ فِيهِ حَرَّ الْحُمَّى حَتَّى مَاتَ . وَقَدْ نَذَرَ أُتِي بْنُ كَعْبٍ نَفْسَهُ بَعْدَ الْتِحَاقِ النَّبِيِّ الْكَرِيم لا بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى لإِقْرَاءِ النَّاسِ كِتَابَ اللَّهِ ، وَتَفْقِيهِهِمْ بِدِينِ اللَّهِ ، وَتَعْلِيمِهِمْ شَرِيعَةً
الْإِسْلَامِ … وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ .. فَكَثْرَ إِقْبَالُ النَّاسِ عَلَيْهِ ، وَازْدِحَامُهُمْ حَوْلَهُ
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ ؛ فَقَالَ :
أَوْصِنِي يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ . فَقَالَ : اِتَّخِذُ كِتَابَ اللَّهِ إِمَامًا
وَارْضَ بِمَا جَاءَ فِيهِ قَاضِبًا وَحَكَمًا؛ فَإِنَّهُ الْخَلَفُ الَّذِي اسْتَخَلَفَهُ فِيكُمْ نَبِيكُمْ .
…
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ شَفِيعٌ لَكُمْ مُطَاعٌ … وَشَاهِدٌ عَلَيْكُمْ لَا يُتَّهَمُ وَأَنَّ فِيهِ ذِكْرَكُمْ ، وَذِكْرَ مَنْ قَبْلَكُمْ ، وَحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ … وَفِيهِ خَبَرُكُمْ ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ .
وَجَاءَهُ رَجُلٌ آخَرُ ؛ فَقَالَ لَهُ : عِظْنِي يَا أَبَا الْمُنْذِرِ .
فَقَالَ :
لَا تَدْخُلَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ وَلَا تَغْبِطَنَّ حَيًّا بِشَيْءٍ إِلَّا مَا تَغْبِطُهُ بِهِ مَيْتًا
وَلَا تَطْلُبْ حَاجَةٌ مِمَّنْ لَا يُبَالِي أَلَّا يَقْضِيَهَا لَكَ…
وَقَدْ أَمَّ الْمَسْجِدَ رَجُلٌ مَحْزُونُ الْقَلْبِ عَلَى رِزْقٍ أُخِذَ مِنْهُ ؛ فَحَيَّاهُ أُبَيُّ بْنُ
كَعْبٍ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ ، وَقَالَ لَهُ :
مَا مِنْ عَبْدٍ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ إِلَّا عَوَّضَهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ….
وَمَا مِنْ عَبْدٍ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ حَيْثُ لَا يَحِلُّ لَهُ ؛ إِلَّا سَلَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ …
وَقَدْ ظَلَّ أَتِيُّ بْنُ كَعْبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَوْئِلًا لِطُلَّابِ الْعِلْمِ حَتَّى عُمرَ وَشَاخَ ، وَظَلَّ النَّاسُ يَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ حَتَّى وَافَاهُ الْأَجَلُ .
حَدَّثَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبُجَلِي قَالَ :
أَتَيْتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ الله أَبْتَغِي الْعِلْمَ ؛ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ النَّبِي ؛ فَإِذَا النَّاسُ فِيهِ حِلَقٌ حِلَقٌ يَلْتَفُونَ حَوْلَ أَهْلِ الْعِلْم …
فَجَعَلْتُ أَمْضِي مِنْ حَلْقَةٍ إِلَى أُخْرَى؛ حَتَّى أَتَيْتُ حَلْقَةً فِيهَا رَجُلٌ شَاحِبُ اللَّوْنِ مَهْزُولُ الْجِسْم ؛ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ كَأَنَّمَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ …
فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ … فَتَحَدَّثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ
الانْصِرَافَ إِلَى بَيْتِهِ ؛ فَقُلْتُ لِرَجُلٍ قَرِيبٍ مِنِّي : مَنْ هَذَا ؟
فَقَالَ : وَيْحَكَ !! أَلَا تَعْرِفُهُ ؟!
هَذَا سَيْدُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ .
هَذَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ الْأَنْصَارِيُّ .
قَالَ جُنْدُبٌ :
فَتَبِعْتُهُ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ ؛ فَإِذَا هُوَ كَمَنَازِلِ الْفُقَرَاءِ ..
وَإِذَا هُوَ يَعِيشُ فِيهِ عِيشَةً رَجُلٍ زَاهِدٍ مُنْقَطِع فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ؛ فَرَدَّ السَّلَامَ بِأَحْسَنَ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟
فَقُلْتُ : مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، ثُمَّ هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ .
فَقَالَ : لَقَدْ أَكْثَرْتُمْ عَلَيَّ الْيَوْمَ .
فَأَغْضَبَنِي قَوْلُهُ وَجَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ، وَاسْتَقْبَلْتُ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعْتُ
يَدَيَّ ، وَقُلْتُ :
اللَّلهُمَّ إِنَّا نَشْكُوهُمْ إِلَيْكَ …
فَنَحْنُ نُنْفِقُ نَفَقَاتِنَا ، وَتُنْصِبُ أَبْدَانَنَا ، وَنُضْنِي مَطَايَانَا ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ ؛
فَإِذَا لَقِينَاهُمْ تَجَهَّمُوا لَنَا …
فَمَا إِنْ سَمِعَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ كَلَامِي ؛ حَتَّى انْدَفَعَ يَبْكِي ..
ثُمَّ طَفِقَ يَتَرَضَّانِي وَيَقُولُ :
وَيْحَكَ ! … إِنِّي لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ ، وَلَمْ أَذْهَبْ إِلَى مَا بَدَا لَكَ …
ثُمَّ قَالَ :
اللَّهُمَّ إِنِّي أُعَاهِدُكَ عَلَى إِنْ أَبْقَيْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؛ لَأَتَكَلَّمَنَّ بِمَا سَمِعْتُهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا أَخْشَىٰ فِيهِ لَوْمَةَ لائِم .
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ انْصَرَفْتُ ، وَجَعَلْتُ أَنْتَظِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ …
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ؛ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي … فَإِذَا السَّكَلُ
غَاصَّةٌ بِالنَّاسِ ؛ فَلَا أَجِدُ سِكَة إِلَّا أَلْقَى فِيهَا جُمُوعًا مُتَرَاصَّةٌ …
فَاسْتَوْقَفْتُ بَعْضَهُمْ وَقُلْتُ : مَا شَأْنُ النَّاسِ ؟!
فَقَالُوا : إِنَّا نَحْسَبُكَ غَرِيبًا .
فَقُلْتُ : نَعَمْ إِنِّي غَرِيبٌ .
فَقَالُوا : مَاتَ سَيْدُ الْمُسْلِمِينَ … مَاتَ أُتِي بْنُ كَعْبِ الْأَنْصَارِيُّ ….
نَضْرَ اللَّهُ ضَرِيحَ أُتِيِّ بْنِ كَعْبٍ حَامِلِ كِتَابِ اللهِ …
وَكَاتِبٍ وَحْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاه.