حُـذيفة بن اليمــان رضي الله عنه

(ما حدثكم حُذَيْفَةُ فَصَدِّقوه وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقرؤوه)
[ حدیث شریف ]

(إِنْ شِئْتَ كنتَ من المُهاجرين ، وإن شئت كنتَ من الأنصار ، فاخْتَرْ أَحَبَّ الأمرين إلى نَفْسِك)

بهذه الكلمات خاطب الرسولُ عليه الصلاة والسلامُ حُذَيْفَةَ مِنَ اليَمَانِ حِينَ لَقيَهُ أَوَّلَ مرَّة في مَكَّة .
ولتخيير حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ في الانتماء إلى أكَرَمِ فِئَتَيْن وأحبهما إلى المسلمين قصة : فاليَمَانُ أبو حُذَيْفَةَ مَكِيُّ من بني عَبْس لكِنَّه أَصَابَ دَماً في قَوْمه ، فاضطر إلى النُّزُوحِ عن مَكَّةَ إِلى يَثْرِبَ ، وهناك حالَفَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
وصاهَرَهم ، ووُلِدَ له ابنه حُذَيْفَة .
ثم زالَتِ الموانِعُ التي تحول دونَ اليَمانِ ودونَ دُخول مكَّةَ فَجَعَلَ يتردَّد بَيْنَها وبَيْنَ يثْرِب ، ولَكِنَّ إقامته كانت في المدينة أكثر وألصق ولما أهل الإسلام بنوره على جزيرةِ العَرَبِ كان اليمانُ أَبُو حُذَيْفَةَ أَحَدَ عَشَرَةٍ من بني عَبْس وَفَدُوا على الرسول صلواتُ الله عليه وأعلنوا إسلامهم بين يديه ، وذلك قَبْلَ أَنْ يُهاجر إلى المدينة ، ومن هنا كان حُذَيْفَةَ مَكَّيَّ الأَصْلِ مَدَنِيَّ النشأة.

**
نَشَأَ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَان فِي بَيْتٍ مُسْلِمٍ ورُبِّي فِي كَنَفِ أَبَوَيْنِ من السابقين إلى الدخول في دين الله ، فأَسْلَمَ قَبْلَ أَن تَكْتَحِلَ عيناه بِمَرْأَى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه .
كان شَوْقُ حُذَيْفَةَ إلى لقاء الرسول يَمْلاً جَوَانحَه ، فهو ما زال مُنْذُ أَسْلَمَ يَتَسَقُطُ أخباره ، ويُلِحُ في السؤال عن أَوْصَافِه ، فلا يَزِيدُهُ ذلك إلا وَلَعاً به ، وحنيناً إليه . فَرَحَلَ إلى مَكَّةَ لِيَلْقاه ، فما إن رأى النبي حتى سَأَلَهُ : أَمُهاجر أنا أنصاري يا رسول الله؟ فقال عليه السلام : ( إن شئتَ كُنْتَ من المهاجرين ، وإنْ شِئتَ كُنتَ من الأنصارِ ، فَاخْتَر لِنَفْسِك ما تُحِبُّ) .
فقال : بل أنا أنصاري يا رسول الله .


ولَمَّا هاجر الرسولُ عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لازمه حذَيْفَةُ مُلازَمَةَ العَيْنِ لاخْتِهَا ، وشَهِدَ معه المواقع كُلَّها إلا بدراً.ولِتَخَلَّفِ حُذَيْفَة عن بدرٍ قصَّةٌ رواها بنفسه فقال : ما مَنَعَني أَنْ أَشْهَدَ بدراً إلا أَنِّي كُنتُ خارج المدينة أنا وأبي ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ وقالوا : أَيْنَ تقصدون ؟ فقلنا : المدينة ، فقالوا : إنَّكُمْ تريدون محمداً ، فَقُلنا : ما نريد إلا المدينة ، فَأَبَوْا أنْ يُطْلِقونا إلا بعد أنْ أخذوا العَهْدَ علينا ألا نَنْصُرَ محمداً عليهم وألا تُقاتِلَ معه ، ثُمَّ أَطْلَقوا سَراحَنا ولما قدمنا على رسول الله ﷺ أَخْبَرْنَاهُ بما قَطَعْناه من عَهْدٍ لِقُرَيْشٍ ،
وسألناه ماذا نَصْنَعُ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (نَفِي بِعَهْدِهِم وَنَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ بالله) .
ولما كانت أُحدُ خاضها حذَيْفَةُ مع أبيه اليمان ؛ أَمَّا حُذَيْفَةُ فَابْلى فيها أَعْظَمَ البلاء وأكْرَمَهُ ، وخَرَجَ منها سالماً ، وأما أبوه فقد استُشْهِدَ فيها ، ولكِنَّ اسْتِشْهَادَه كان بسيوف المسلمين لا بسيوف المشركين ؛ ولذلك قِصَّةٌ نوردها فيما يلي :
لما كان يوم أحدٍ وَضَعَ رسولُ الله و اليمان وثابت بن وَقْش في الحُصونِ النِّساءِ والصِّبْيَانِ ، لأنَّهُما كان شَيْخَيْنِ كبيرين طاعنين في السِّنِّ ، فلما حمي وطيسُ المَعْرَكَةِ قالَ اليَمانُ لصاحبه : لا أبا لك ، ما تنتظر ؟! فوالله ما مع الواحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمُرِه إِلَّا بِمقْدارِ ما يَظْمَ الحمار ، إِنَّمَا نَحْنُ هامة اليوم أو غَدٍ ، أَفَلا نأْخُذ سَيْفَيْنا ونَلْحَقُ برسولِ اللهِ ﷺ ، لعلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا الشَّهَادَةَ معه ثم أَخَذَا سَيْفَيْهِما ودَخَلا في النَّاس واقْتَحَما المَعْرَكَةَ .
أما ثابتُ بنُ وَقْشٍ فَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ على أَيْدِي الْمُشْرِكين ، وأَما اليَمَانُ والِدُ حُذَيْفَةَ فَتَعَاوَرَتْهُ سُيُوفُ المُسْلِمِينَ وهُمْ لا يَعْرِفُونَه ، وجَعَلَ حُذَيْفَةَ يُنَادِي : أبي … أبي فلا يَسْمَعُه أحدٌ ، وخرَّ الشيخ صريعاً بأشياف أصحابه ، فما زاد حُذَيْفَةُ على أن قال لهم : يَغْفِرُ اللهُ لكم ، وهو أَرْحَمُ الرّاحمين . ثم أرَادَ الرسولُ عليه الصلاة والسلامُ أنْ يُعْطِي الابنَ دِيَةَ أَبِيهِ ، فقال حُذَيْفَةُ : إنَّما هو طالب شهادَةٍ وقد نالها ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي تَصَدَّقْتُ بِدِيَتِهِ عَلَى المسلمين ، فازْدَادَ بذلك منزلةً عِند رسول الله ﷺ


سبر الرسول صلوات الله وسلامه عليه غَيْرَ حَذَيْفَة بن اليمانِ ، فَتَجَلَّتْ له فيه خلال ثلاث : ذكاءً فَذُ يُسْعِفُه فى حَلِّ المُعْضِلاتِ ، وَبَديهَةٌ مُطَاوِعَةٌ تلبيهِ كُلَّما دَعَاها ، وكتمانُ لِلسِّرِّ فلا يَنْفُذُ إلى غَيْرِهِ أَحَدٌ . وكانت سِيَاسَةُ الرسول عليه الصلاة والسلامُ تَقُومُ على اكتشاف مَزَايَا أصحابه والإفادَةِ مِنْ طَاقَاتِهِمْ الكامِنَةِ في ذَوَاتِهم ، وذلك بِوَضْع الرَّجُلِ المُناسِبِ في المَكانِ المُناسِب .
وكانَتْ أكبرُ مُشْكِلَةٍ تُوَاجِهُ المُسلمين في المدينة هي وُجود المنافقين من اليهود وأشياعِهِمْ ، وما يَحِيكُونَهُ للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من مكائد ودسائس
فَأقْضَى النبيُّ صلواتُ اللهِ عليهِ لِحُذَيْفَةَ بن اليَمانِ بِأَسْماءِ المنافقين – وهو سر لم يُطْلِع عليه أحداً من أَصْحَابِه – وعَهِدَ إِلَيْهِ بِرَصْدِ حَرَكاتِهِمْ ، وَتَتَّبِعِ نشاطِهِمْ وَدَرْءِ خَطَرِهِمْ عن الإسلام والمسلمينَ ، وَمُنْذُ ذلك اليوم دُعِيَ حذيفة ابن اليمان «بصاحِبِ سِرِّ رسول الله ﷺ »


وقد استعانَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلامُ بِمَوَاهِبِ حُذَيْفَةَ فِي مَوْقِفٍ من أشَدَّ المواقِفِ خَطَراً ، وأَحْوَجِها إلى الذَّكاءِ الفَذَّ والبديهة المطاوِعَةِ ، وذلك في ذُرْوَةِ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ ، حَيْثُ كان المسلمون قد أحَاطَ العَدُوُّ مِن فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِم ، وطالَ عَلَيْهِم الحِصارُ ، واشْتَدَّ عَلَيْهِمُ البَلاءُ ، وَبَلَغَ مِنْهُمُ الجَهْدُ والضَّنْكُ كُلَّ مَبْلَغ ، حَتَّى زاغَتِ الأَبْصَارُ وبَلَغَتِ القلوبُ الحَنَاجِرَ وأَخَذَ بعض المسلمينَ يَظُنُّونَ باللَّهِ الظنون . ولم تكن قريش وأحْلافُها من المُشْرِكِينَ في هذه الساعات الحاسمـاتِ بأحْسَنَ حالاً من المسلمين . فقد صَبَّ عليها اللهُ عَزَّ وجَلَّ من غَضَبِهِ مَا أَوْهَنَ قُواهَا وَزَلْزَلَ عَزَائِمَها فأَرْسَل عليها ريحاً صَرْصَراً تَقْلِبُ خِيامَها وتَكْفَ قُدورهَا ، وتُطْفِيءُ نيرانها وتَقْذِفُ وُجوهَهَا بِالحَصْباءِ ، وتَسُدُّ عيونَها وَحَياشِيمَها بالتراب في هذه المواقفِ الحاسمة من تاريخ الحروب يكونُ الفَرِيقُ الخَاسِرُ هو الذي يَيْن أولاً ، ويكون الفريق الرابح هو الذي يَضْبطُ نَفْسه طَرْفَةَ عَيْنٍ بَعْدَ صاحبه .
وفي هذه اللحظات التي تُكْتبُ فيها مَصَائِرُ المعارِكِ يكونُ لاستخبارات الجيوش الفَضْلُ الأَوَّلُ في تَقْدِيرِ المَوْقِفِ وَإِسْدَاءِ المشورة.
ومن هنا احتاج الرسول عليه الصلاة والسلام لطاقاتِ حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ وخبراته ، وعَزَمَ على أنْ يَبْعَثَ بِهِ إِلى قَلْبِ جيش العَدُوِّ تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ لِيَأْتِيَه بأَخْبَارِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْرِمَ أَمْراً .
فَلْتَتْرُكْ الحُذَيْفَةَ الكَلَامَ لِيُحَدِّثَنَا عَن رِحْلَةِ المَوْتِ هذه . قال حُذَيْفَةُ : كُنَّا في تلك الليلةِ صافينَ قُعُوداً ، وأَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَوْقَنا ، وبَنُو قُرَيْظَةَ من اليَهُودِ أَسْفَلَ مِنَّا نَخَافُهُمْ عَلى نِسَائِنا وذَرَارينا ، وما أَتَتْ علينا لَيْلَةٌ قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةٌ ولا أَقْوَى ريحاً مِنْها ، فأصواتُ ريحها مِثْلُ الصواعق ، وشِدَّة ظلامِها تَجْعَلُ أَحَدَنا ما يَرَى إِصْبَعَهُ .
فأخذ المنافقون يَسْتَأْذِنونَ الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويقولون : إنَّ بيوتنا مكشوفةٌ للعَدُوِّ – وما هي بِمَكْشُوفَةٍ – فما يَسْتَأْذِنُه أَحَدٌ مِنْهُم إِلَّا أَذِنَ له وهم يَتَسَلَّلُونَ حتى بقينا في ثلاثمائة أو نحو ذلك . عند ذلك قامَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلامُ وجَعَلَ يمر بنا واحداً واحداً حتى أتى إليَّ وما عَلَيَّ شَيءٌ يقيني من البَرْدِ إِلَّا مِرْطُ لامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتَيَّ .
فاقترب مني وأنا جاثٍ على الأرْضِ ، وقال : ( من هذا ؟ ) .
فقلت : حُذَيْفَةُ ، قال : ( حذيفة ؟ ) فَتَقاصَرْتُ إِلى الأَرْضِ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقومَ من شدة الجُوعِ والبَرْدِ ، وقُلْتُ : نعم يا رسول الله، فقال : (إنَّه كائن في القوم خَبَرٌ فَتَسَلَّلْ إِلَى عَسْكَرِهم وأتِنِي بِخَبَرِهم … ) . فَخَرَجْت وأنا من أَشَدَّ النَّاسِ فَزَعاً وأَكْثَرِهِمْ بَرْداً ، فقال رسولُ اللَّهِ ﷺ : (اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ، ومن، ومن خَلْفِه ، وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ ، وَمِنْ فَوْقِهِ ومِنْ تَحْتِه) .
فوالله ، ما تَمَّتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ عليه السلام حتى انْتَزَعَ اللَّهُ مِن جَوْفِي كُلُّ ما أَوْدَعَهُ فيه من خَوْفٍ وَأَزَالَ عَن جَسَدِي كُلَّ ما أَصَابَهُ مِنْ بَرْدٍ . فلما وَلَّيْتُ ناداني عليه الصلاة والسلام وقال : (يا حُذَيْفَةٌ لا تُحْدِثُنَّ في القَوْمِ شيئاً حتى تأتيني، فقلتُ: نعم، وَمَضَيْتُ أَتَسَلَّلُ فِي جُنْحِ الظلامِ حَتَّى دَخَلْتُ في جُنْدِ المُشْرِكِينَ وصِرْتُ كَأَنِّي وَاحِدٌ مِنْهُمْ . وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيباً وقال : يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي قائِلٌ لَكُمْ قَوْلاً أَخْشَى أَنْ يَبْلُغَ مُحَمَّداً فَلْيَنْظُرْ كَلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَنْ جَلِيسُهُ، فما كان مِنِّي إلا أنْ أخَذْتُ بِيَدِ الرَّجل الذي كان إلى جنبي وقلت : من أَنْتَ ؟ فقال : فلان بن فلان .

وهنا قال أبو سفيان : يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إِنَّكُمْ واللَّهِ ما أصبحتم بِدارِ قرارٍ ، لقد هَلَكَتْ رَوَاحِلُنا ، وتخَلَّت عَنَّا بنو قُرَيْظَةَ، ولَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ ما تَرَوْنَ ، فارْتَحِلوا فإِنِّي مُرْتَحِلٌ ، ثم قامَ إلى جَمَلِه فَفَكٌ عِقالَه ، وجَلَسَ عليه ، ثم ضَرَبَهُ فَوَثَبَ قَائِماً. ولولا أَنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ أَمَرَنِي أَلَّا أُحْدِثَ شيئاً حتى آتِيَهُ لَقَتَلْتُه بِسَهُم .
عند ذلك رَجَعْتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فَوَجَدْتُه قائِماً يُصَلِّي في مِرْطٍ لِبَعْض نِسائِهِ ، فلما رآني أدنانِي إِلَى رِجْلَيْهِ وطَرَحَ عليَّ طَرَفَ المِرْطِ فَأَخْبَرْتُه الخَبَرَ ، فَسُرَّ به سروراً شديداً وحمد الله وأثنى عليه . ظَلَّ حُذَيْفَةُ بنُ اليمانِ مُؤْتَمَناً على أسرار المنافقين ما امْتَدَّتْ به الحياة ، الله عنه وظَلَّ الخُلَفَاءُ يَرْجِعُونَ إليه في أَمْرِهِمْ ، حَتَّى إِنَّ عمر بن الخطاب رضي
كان إذا ماتَ أَحَدُ المُسْلِمِين يَسأَلُ : َأحَضَرَ حُذَيْفَةَ للصَّلاةِ عليه ؟ فإن قالوا : نعم ، صلى عليه ، وإن قالوا : لا ، شَكٍّ فيه ، وأَمْسَكَ عن الصلاة عليه .
وقد سأله ذات مَرَّةٍ : أفي عُمَّالِي أَحَدٌ من المنافقين ؟ فقال : واحد ، فقال : دُلّني عليه ، فقال : لا أفعل ، قال حُذَيْفَةُ : لَكِنَّ عُمَرَ مَا لَبِثَ أَنْ عَزَلَه كأَنَّما هُدِيَ إِليه.
ولعل قليلاً من الناس من يعلم أن حذيفة بن اليمان فتح للمسلمين نهاوند والدَّيْنَورَ ، وهَمَذانَ والرِّيَّوكان سَبَباً في جَمْع المسلمين على مُصْحَفٍ واحدٍ بعد أن كادوا يَفْتَرِقُونَ فِي كِتابِ اللهِ .
وعلى الرَّغْم من ذلك كُلَّه كانَ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ شَدِيدَ الخَوْفِ على نَفْسِه من الله ، عظيم الخَشْيَةِ من عقابه فهو حينَ ثَقُلَ عليهِ مَرَضُ المَوْتِ جاءَه بَعْضُ الصَّحابَةِ في جَوْفِ الليل ، فقال : أي ساعةٍ هذه ؟ فقالوا : نحنُ قريب من الصُّبْحِ ، فقال : أعوذُ باللهِ صَبَاحٍ يُفْضِي بي إلى النار … أعوذ بالله من صباح يُفْضِي بي إلى النار .
من ثم قال : أَجِتُمْ بكَفَنِ ؟ قالوا : نعم . قال : لا تُغَالُوا بالأكْفانِ فَإِنْ يَكُنْ لي عِنْدَ اللهِ خيرٌ بُدَلْتُ به خيراً ، وإِنْ كانَتِ الأُخْرَى سُلِب مني .
ثم جعل يقول : اللهم إنَّكَ تَعْلَمُ أني كُنْتُ أَحِبُّ الفَقْرَ على الغِنَى وأحِبُّ الذلة على العِزَّ ، وأُحِبُّ المَوْتَ على الحياة
ثم قال وروحه تفيض : حبيب جاءَ على شَوْقٍ ، لا أَفْلَحَ من نَدِم.

رحم الله حُذَيْفَة بن اليمان فقد كان طرازاً فريداً من الناس

أقمتُ بعد ذلِك مَعَ رسول اللهِ في مكَّةَ فعلَّمَني الإسلام ، وأَقْرَأَنِي شيئاً من القرآن ، ثم قال لي :
(لا تُخْبِرْ بِإِسْلَامِكَ أحداً في مَكَّةَ ، فإنِّي أخافُ عليك أنْ يَقْتُلُوك ) .
فقلت : والذي نَفْسي بيده لا أَبْرَحُ مَكَّةَ حَتَّىٰ آتِيَ المَسْجِدَ وأَصْرُحَ بِدَعْوَةِ الحَقِّ بَيْنَ ظَهْرَانَي قريش؛ فَسَكَتَ الرسولُ .
فجئتُ المَسْجِدَ وقريشُ جُلوس يتحدَّثون ، فَتَوَسَّطْتُهُم ، وناديتُ بِأَعْلَى صوتي : يا مَعْشَرَ قريش ، إِنِّي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
فما كادتْ كلماتي تُلامِسُ آذانَ القوم حَتَّى ذُعِروا جميعاً ، وهَبُوا من مجالسهم ، وقالوا :
عليكم بهذا الصَّابِى . وقاموا إليَّ وجعلوا يَضْرِبُونَنِي لِأَمُوتَ ، فَأَدْرَكَني الْعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِب عَمُ النبيِّ ، وَأَكَبَّ عَلَيَّ لِيَحْمِينِي منهم ، ثم أقبل عليهم وقال : ويلكم ! أتقتلون رَجُلاً من ( غِفَارٍ ) وَمَمَرُّ قَوَافِلِكم عليهم ؟! فَأقلعوا عَنِّي!
ولما أَفَقْتُ جِنْتُ إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا رَأَى ما بي قال :
( أَلَمْ أَنْهَكَ عن إعلانِ إِسْلامِك ؟) فقلت :
يا رسول الله ، كانت حاجةً في نَفْسِي فَقَضَيْتُها فقال : (الْحَقِّ بقومك ، وخَبِّرْهُمْ بما رأيت وما سمعت ، وادْعُهُمْ إِلَى الله ، لعل الله ينفعهم بك ويؤجرك فيهم . فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي ظَهَرْتُ فَتَعَالَ إِلَيَّ)
قال أبو ذر : فانطلقتُ حتى أتيتُ منازل قومي فلقيني أخي أنيس فقال : ما صنعت؟
قلتُ : صنعتُ أَنِّي أسلمتُ ، وصدَّقْتُ .
فما لَبِثَ أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وقال :
ما لِيَ رَغْبَةٌ عن دينك ، فإنِّي قد أسلمتُ وصدقت أيضاً .
ثم أتينا أُمَّنَا فَدَعَوْنَاهَا إِلَى الإسلام فقالت :
ما لي رَغْبَةً عن دينكما ، وأسلمت أيضاً .
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسْرَةُ المؤمنة تدعو إلى اللهِ فِي غِفَارٍ لا تَكِلُّ عن
ذلك ولا تَمَلُّ منه ، حَتَّى أَسْلَمَ من غِفَارٍ خَلْقَ كَثِيرٌ وَأُقِيمَتْ الصلاة فيهم .
وقال فريق منهم : نَبْقَى على ديننا حتّى إذا قَدِمَ الرسولُ المدينةَ أَسْلَمْنَا ،
فلما قَدِمَ الرسولُ المدينة أسلموا ، فقال عليه الصلاة والسلام
( غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لها ، وأَسْلَمُ سَالَمَها اللَّهُ ) .

أقام أبو ذر في بادِيَتِهِ حَتَّى مَضَتْ بدر واحد والخَنْدَقُ ، ثم قيم على المدينةِ وَانْقَطَعَ إِلَى رسولِ اللهِ ﷺ ، واسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يقومَ عَلَى خِدْمَتِهِ ؛ فَأَذِنَ لَهُ وَنَعِمَ بِصُحْبَتِهِ وَسَعِدَ بِخِدْمَتِهِ .

وظل رسولُ اللَّهِ صلواتُ اللهِ عليه يُؤْثِرُهُ وَيُكْرِمُهُ ، فَمَا لَقِيَهُ مَرَّةً إِلَّا صافحَهُ ، وَهَشَ في وَجْهِهِ وبَش.


ولما لحق الرسولُ الكريمُ بالرفيق الأعْلَى لم يُطِقُ أبو ذَرِّ صَبراً عَلى الإقامة في المدينة المنوّرَةِ بعد أن خَلَتْ من سَيّدِها وَأَقْفَرَتْ من هَدْي مجالِسِهِ ، فَرحَلَ إلى بادِيَةِ الشام وأقام فيها مُدَّةَ خِلافَةِ الصِّدِّيقِ والفاروق رَضِيَ اللَّهُ عنهما وعنه .
وفي خلافة عثمانَ نَزَلَ في دمشقَ فَرَأَى من إقبال المسلمين على الدنيا وانْغِمَاسِهم في التَّرَفِ ما أَذْهَلَهُ ودَفَعَهُ إلى استِنْكَار ذلك ؛ فاستدعاه عثمان ابنُ عَفَّانَ إِلَى المدينة، فقدم إليها ، لكنَّهُ ما لَبِثَ أَنْ ضاقَ بِرَغْبَةِ الناس في الدنيا
وضاق الناسُ بشِدَّته عليهم وَتَنْدِيدِه . بهم فأَمَرَهُ عثمانُ بالانتقال إلى « الرَّبْذَة »
وهي قَرْيَةٌ صغيرة من قُرَى المدينة ، فرحل إليها وأقام فيها بعيداً عن الناس ، زاهداً بما في أيديهم من عَرَض الدنيا ، مُسْتَمْسِكاً بما كان عليه الرسول وصاحباه من إيثار الباقية على الفانية متاعاً .


دَخَلَ عليه رجل ذاتَ مَرَّةٍ فَجَعَلَ يُقَلِّبُ الطَّرْفَ في بيتِهِ ، فلم يجد فيه فقال : يا أبا ذر ، أين متاعكم ؟!
فقال : لنا بيت هناك يعني الآخرة نُرْسِلُ إِلَيْهِ صَالِحَ مَتَاعِنَا .
فَفَهِمَ الرَّجُلُ مُرَادَهُ وقال له :
ولكِنْ لا بُدَّ لك من متاع ما دُمْتَ في هذه الدار (يعني الدنيا) .
فأجاب : ولكن صاحِبَ المنزل لا يَتْرُكُنا فيه .
وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار ، وقال له : اسْتَعِنْ بها على قضاء حاجتك ، فردَّها إليه وقال : أمَا وَجَدَ أميرُ الشام عبداً للهِ أهون عليه منِّي ؟
وفي السنة الثانية والثلاثين للهجرة استأثَرَتْ يَدُ المَنُون بالعابدِ الزاهدِ الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام :

ما أقلتِ الغبراء ولا أظلَّتِ الخَضْراء مِنْ رَجُل أَصْدَقَ مِنْ أبي ذر.

صور من حياة الصحابة | عبد الرحمن رأفت الباشا

شارك هذا المقال:

مقالات مشابهة