“… فلما ثقل رسول الله ﷺ أقاموا هنالك، فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم تبق الجمعة تقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس …، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام، لم يفروا ولا ارتدوا.
والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم الآن مما جهز بسببه في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله ﷺ، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزن جيش أسامة.
فجهزه وأمر الحرس يكونون حول المدينة، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح ، والحالة تلك ، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة. فغابوا أربعين يوما، ويقال: سبعين يوما. ثم آبوا سالمين غانمين، ثم رجعوا فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة، ومانعي الزكاة…
وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما، عن الحسن البصري، أن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمر علينا غير أسامة. فذكر له عمر ذلك، فيقال: إنه أخذ بلحيته وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أأؤمر غير أمير رسول الله ﷺ؟! ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير، وسار معهم ماشيا، وأسامة راكبا، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق، فقال أسامة يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: والله لست بنازل ولست براكب. ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب وكان مكتتبا في جيشه – فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير.
قال أبو جعفر بن جرير: حدثني عمرو بن شيبة النميري، ثنا علي بن محمد – يعني المدائني – عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء، عن مشيختهم، قالوا: أمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل الأسود في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر وهو بالمدينة”.
كتاب | البداية والنهاية
للحافظ ابن كثير – (بتصرف)